هاشم كرار : نميري.. المخلوع أنا وللا الجزولي.. دا؟!
تهب الآن، رياح ابريل، على السودان، وكلما تهب هذه الرياح، أذكر طرفة نسبها من أطلقها، إلى الرئيس (المخلوع) جعفر نميري.
ابريل -الانتفاضة الشعبية خلعت نميري، كما هو معروف، في العام 1985.. ومنذ السادس من ذلك الشهر العظيم، راج بين السودانيين، تعبير (الرئيس المخلوع) والمخلوع من الخلع، في اللغة العربية.. و«المخلوع» في الدارجية السودانية، من فاجأه ما هو مخيف فأظهر (الخُلعة) أي عدم الارتكاز، من الخوف، وأول مظاهر هذه «الخُلعة» هو في توثب العينين، واتساعهما أكثر مما ينبغي!
كان النميري، في مطار القاهرة، عائدا من واشنطن، في طريقه إلى الخرطوم، حين تقدم إليه الرئيس مبارك، وصافحه، وانتحى به جانبا، وكان على مقربة منهما- الإثنان- دكتور أسامة الباز.
كان الرئيس نميري منزعجا جدا، ذلك لأنه لم يكن في استقباله، البساط الاحمر، مفروشا.. البساط الذي يليق بالرؤساء.
هل «انتهيت»؟
ذلك هو السؤال، الذي قفز إلى ذهنه ــ فيما أتصور ــ إذ هو يشوف- أول مايشوف- أن لا بساط أحمر، مفروشا أمامه، من أسفل باب الطائرة، إلى حيث يفترض أن تكون هنالك منصة، وفرقة شرف تعزف السلامين المصري، والسوداني.
لم يكن هنالك، بساط أحمر.لم تكن هنالك منصة، ولا فرقة شرف!
كانت الاذاعات، كلها، في ذلك الوقت، تتحدث عن الثورة الشعبية في السودان، تلك التي بدأت فيما كان النميري، في طريقه إلى مطار الخرطوم، لامتطاء الطائرة،إلى اميركا.. الثورة التي زادت اشتعالا، و.. أهلكت في السادس من أبريل نظام مايو، بانحياز الجيش إلى ارادة الشعب في الشوارع، فيما كانت طائرة نميري العائدة من أميركا، على بعد اميال جوية قليلة، من سماء مصر!
– هل انتهيت»؟
– لا، لا.. لا. مستحيل!
كان السؤال من نميري، والإجابة منه، بينه وبين نفسه، وهو يخطو إلى جانب مبارك، الذي كان يريد أن يبلغه بـ «النهاية»، تلك التي قال بها فيما كانت طائرة «الريس»،في الجو، بيان من سوار الذهب، اذاعته اذاعة أم درمان! – يؤسفني، يا أخ جعفر، أن أنقل إليك أن الجيش انحاز إلى الشعب. يؤسفني أن أبلغك أن وزير دفاعك الفريق سوار الذهب أعلن ذلك في الاذاعة!
لم أكن إلى جوار الاثنين: مبارك والنميري. ولم أكن قريبا منهما، إلى جوار أسامة الباز، غير أني، ما أزال أتخيل، كيف أن الرئيس مبارك، كان متحفزا ــ بينه وبين نفسه ــ للاسراع في أي لحظة، للامساك بالرئيس الذي أسقطه شعبه، حتى لا يسقط مرة ثانية.. وفي هذه المرة، مغشيا عليه!
زم النميري شفتيه، وضغط بأسنانه العلوية على شفته السفلى، وهو يفرك كفيه الإثنين معا، بكفيه، في ذات الوقت.أخذ نفسا حارا جدا إلى فوق، وآخر إلى تحت، قبل أن يفتح فمه، في المسافة التي بينه وبين الرئيس مبارك.
– لو سمحت يا أخ مبارك، أريد نص البيان الذي أذاعه سوار الذهب!
كان الرئيس مبارك، متوقعا مثل هذا الطلب، ومستعدا للاستجابة له، بأسرع مما يتصور النميري. غمز الرئيس مبارك، لأسامة الباز، بعين واحدة، فأسرع الأخير، إلى حيث الاثنين، وهو يتحسس أحد جيوب بدلته، وأخرج ورقة وناولها للرئيس (المخلوع).
غرس النميري، عينيه في الورقة، بعد أن «لبس» نظارته الطبية، وراح يتمتم:
– YES. أنا كنت عارف ذلك، هذا البيان كتبه عثمان عبدالله!
و.. لم يكن عثمان عبدالله، الذي يعنيه النميري، سوى العميد( وقتذاك) عثمان عبدالله، الذي كان يدير في ذلك الوقت «العمليات» في الجيش، والذي أصبح بعد الانتفاضة عضوا بالمجلس العسكري، والناطق الرسمي باسمه.
– طيب يا أخ مبارك.. مع السلامة!
واستدار النميري، يخطو خطوتين.. ثلاثا، باتجاه الطائرة.
– على فين يا أخ جعفر؟
– على الخرطوم!
وضع الرئيس مبارك، يده اليمنى فوق الكتف اليمنى للرئيس (المخلوع)، قبل أن يقول له:
– هذه مخاطرة يا جعفر، الاجواء السودانية «مقفولة»، وهنالك تهديد، من سلاح الجو في وادي سيدنا، بضرب طائرتك متى ما دخلت الأجواء السودانية!
– ح أرجع يا أخ مبارك.. ح أرجع!
كان كابتن الطائرة، قريبا من الإثنين. غمز له الرئيس مبارك بالعين التي لم يغمز بها لأسامة الباز، فتقدم الكابتن من النميري ليقول:
– سعادة الرئيس، يؤسفني أنني لن أطيع أمرا لك بالطيران.. ذلك لأن في الطائرة آخرين، ثم انني اذا ضحيت بهم، وضحيت بنفسي، فانني لا يمكن أن اضحي بحياتك أنت، ياريس!
و ــ لم تطر الطائرة،ولم يرجع (الريس).
ظل في مصر، إلى يوم، انطلقت النكتة التي تقول، انه أول ما فتح أول جريدة سودانية وصلت القاهرة، ورأى صورة الجزولي دفع الله بعينيه المتوثبتين، راح يرفع صوته، بطريقته تلك التي يمضغ فيها بعض الكلمات:
– بالله شوف الناس ديل.. يقولوا أنا المخلوع.. أنا المخلوع. هسع مخلوع أنا ولا مخلوع الجزولي دفع الله دا؟!
و.. لم يكن الجزولي دفع الله، سوى رئيس وزراء حكومة الانتفاضة!