جميلة يوسف البشري : في حياة طفلة «كتاب»
كنت أترقب قرع جرس الفسحة كل يوم، لأنطلق راكضة إلى تلك الغرفة الصغيرة التي تتوسط الصفوف الدراسية، جديدة، كانت قد أُنشئت منذ مدة قصيرة، لا تزال تفوح منها رائحة الطلاء، لتمتزج برائحة الكتب والورق، مزيجاً اختزلته الذاكرة بحب في صندوقها الطفولي إلى اليوم.
لم أكن أعرف أنها مكتبة المدرسة، إلا حين رأيت إحدى الطالبات تمر بجانبي، ولفت انتباهي شارة صغيرة مستديرة الشكل، مثبتة أعلى طرف الزي المدرسي، وقد كُتب عليها «أصدقاء المكتبة»، فاجأتني تلك العلامة حينها، أوقفتها وسألتها، ماذا تعني هذه الإشارة، فأفهمتني أنه تم إنشاء مكتبة في المدرسة، وأنه تم اختيارها ضمن مجموعة أصدقاء المكتبة.
في ذلك العمر، لم يكن يهمني طرح مزيد من الأسئلة، هناك شيء أهم في رأسي، وارتسم أمام عيني. كان ذلك بعد انتهاء الدوام المدرسي، انتظرت بفارغ الصبر إشراقة يوم غد.
يقين أني كنت أول طفلة دخلت بوابة المدرسة صباحاً، في يوم شتوي بارد، هرعت إلى تلك الغرفة الصغيرة الجديدة القابعة وسط المدرسة، طرقت الباب، وبسرعة أدرت المقبض لأفتحه، كان لا يزال مقفلاً، لأنه لا أحد في المدرسة غيري، وإحدى العاملات التي كانت قد وصلت للتو.
أشارت لي بيدها بحدة من بعيد، بأن أبتعد عن الباب لا أحد بالداخل، أردت إيهامها بأني انصرفت، فركضت للناحية المقابلة، واختبأت بجانب أحد الفصول حتى لا تراني، وما إن اختفت حتى عدت أدراجي، أمام الباب.
جاءت اللحظة المهمة، أقبلت المعلمة، بوجهها الصبوح الهادئ، بصفاء النيل ومنبعه، فتحَت باب الغرفة وهي تنظر إلي، مبتسمة، حتى الابتسامة العذبة النابعة من قلب المعلم، لا ينساها الطفل، ولهذا لم أنسها إلى الآن. ألقت عليّ تحية الصباح وأنا الطفلة، كم أحسست نفسي كبيرة، لأنها قالت لي صباح الخير، بكل حنان ومحبة، وأنا كعقلة الإصبع أمامها، رددت التحية بكل أدب وسعادة.
دخلت المعلمة الغرفة، وهناك كائن صغير خلفها يتبعها، وما إن جلست على الكرسي خلف الطاولة، دخلت أنا في الموضوع على طول..
قلت لها بأنني أحب القراءة، وأريد أن أقرأ كل الكتب التي في المكتبة، فهل تأذن لي بأن آخذ كل يوم مجموعة لأقرأها، وهل يمكن أن أكون صديقة للمكتبة؟، كانت تنظر إلي وهي مبتسمة، وسألتني، ألهذه الدرجة تحبين القراءة! قلت نعم، وبإمكاني أن أساعدك في قراءة كل الكتب. ضحكت وسألتني في أي صف أنتِ، فأجبت: الصف الرابع. قالت نحن نأخذ طالبات الصف السادس فقط..
ولكنني سآخذك ضمن المجموعة، لأنك تحبين القراءة، أجلستني وناولتني قصة، وقالت: أريدك أن تقرئي لي، كانت قصة الجميلة والوحش، بغلافها الأخضر ورسوماتها الجميلة، بدأت أقرأ، ونسيت وجود المعلمة، إلى أن استوقفتني عن المتابعة..
وأثنت على إجادتي للقراءة باللغة العربية، وحسن وسلامة نطقي للحروف في هذه السن الصغيرة. ذلك الثناء الذي يعطي التلميذ دفعة معنوية، تجعله يثق بنفسه، ويمضي بصحة منهجه في أول مراحل حياته الدراسية.
تلك السنة قرأت كل ما تحتويه سلسلة المكتبة الخضراء من قصص الأطفال، بالإضافة إلى قصص دور النشر الأخرى، ومجلات الأطفال والألغاز، وروايات أغاثا كريستي البوليسية، ولم أنته من الصف السادس، إلا وقد عرجت على روائع الأدب العالمي.
اقترحت يوماً على والدي، رحمه الله، أن يصحبنا أنا وإخوتي بانتظام إلى المكتبة، ليختار كل منا كتاباً ويقرأه، وكان اختياري يومها رائعة الأدب العالمي «البؤساء»، للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، وفي النهاية، كانت الحصيلة أن قمت بجمع كل ما اختاره إخوتي من كتب، لأودعها أرفف مكتبتي الصغيرة، التي كبرت معي، فصرت الآن أمتلك مكتبة رائعة، هي حياتي ومصدر سعادتي.
أجمل الأيام، حين يبدأ معرض الكتاب، وكأن بحراً من العلوم والمعرفة قد أرسى سفينته أمام كل محب للقراءة لينهل منه، أيام قليلة، ولكنها عظيمة الفائدة.
ومع كل رحلة، تحمل حقيبة سفري كتباً، أصحبها وتصحبني، لأعود محملة بكتب من ثقافة البلد محل الزيارة، وكم تلفتني مشاهد الشعوب القارئة من مختلف الأعمار في جميع المرافق، متمنية أن نعيشها نحن كأسلوب حياة.
مناسبة كتابتي لفصل من أجمل مراحل الطفولة، هي مبادرة سيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، بتخصيص عام 2016، عام القراءة في الإمارات، لترسيخ القراءة كعادة مجتمعية شعبية شبابية في مجتمعنا.
الخلاصة، أن البنيان يبدأ من الصغر، اللبنة الأولى هي المكتبة، وهناك الجزء المهم، وهو أمينة المكتبة، فلو كانت صلفة وسخرت مني أو تجاهلتني، ربما كنت كرهت ونفرت من القراءة بسببها، وهناك أب شجع أبناءه على القراءة ودعمهم، بالإضافة إلى المواد المشوقة والبرامج التثقيفية المتنوعة الهادفة التي تثري العقل بالمدخلات السليمة.
الرهان على الأطفال.