تواضعوا قليلاً يا هؤلاء
لعل أكثر ما يؤلمني في بلادنا المأزومة أن يتجرد العاملون في فضائنا السياسي من الصدق ويعتبرون السياسة مجرد لعبة قذرة لا علاقة لها بالأخلاق ولذلك لا غرو أن يكون هم الجميع ، إلا من رحم ربي ، كيفية تحقيق أعظم قدر من المكاسب الشخصية ثم الحزبية أو القبلية أو غير ذلك من الولاءات الصغرى التي تقدم على الانتماء الأكبر سواء للدين أو للوطن.
صدقوني قرائي الكرام أن هذه تعتبر علة العلل ومشكلة المشاكل التي قعدت ببلادنا وعطّلت مسيرتها وتسببت في أزماتها فكل يغني على ليلاه، بينما الوطن يئن تحت وطأة المشكلات التي تمسك بخناقه والتي أغرقته في مستنقع الاضطراب السياسي والاحتراب والتغابن والأزمات الاقتصادية الطاحنة منذ فجر الاستقلال.
نعم ، عدم الصدق في ممارسة العمل السياسي الذي يحتاج إلى تجرد يُعلي القيم العليا على ما سواها من اهتمامات هزيلة هو ما جعل الأحزاب والحركات المسلحة في بلادنا المنكوبة يقارب عددها المائتين ولا تزال تتناسل كالفطر بعد أن ترسخ لدى الجميع أن ذلك هو السبيل الأقرب والأسرع للتمرغ في ديباج السلطة ونعيمها.
أقول والحسرة تغمرني إن المناخ السياسي يمتلئ بسوء الظن والتربص ولا أحد يتواضع قليلا ليحسن الظن بالآخر متمثلا في ذلك موقف الإمام الشافعي حينما صدع بالعبارة الذهبية : (قولي صحيح يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، يعلم الناس أننا انخرطنا في حوار الوثبة الذي دعا إليه رئيس الجمهورية على أمل أن نتوصل جميعاً إلى كلمة سواء طالما أنه اعترف بأنه في حاجة إلى توافق وطني يضم الجميع حكومة ومعارضة في سبيل الوصول إلى رؤية مشتركة لحل الأزمة الوطنية تنهي الحرب وتحقق السلام وتنتقل بالبلاد إلى مربع جديد يثوب فيه الجميع إلى الخيار السلمي الديمقراطي.
صحيح أن الأمور لم تسر كما نريد وحدث خلاف كبير بعد أن توصلنا إلى خارطة طريق وافق عليها الطرفان ولا نريد أن ننكأ الجراح، فقد غادرنا مائدة الحوار لأسباب معلومة حملنا فيها الطرف الحكومي المسؤولية التي أقمنا عليه بها الحجة.
ثم ماذا بعد؟ .. هل نظل على موقفنا في انتظار أن تمطر علينا السماء ذهباً وفضة وتنزل علينا المن والسلوى بدون جهد منّا أم نتفاعل مع المستجدات والتحركات التي تسعى إلى كسر الجمود سيما والأزمة لا تزال تمسك بخناق البلاد، ومشكلة منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور لا تزال بعيدة عن الحل الذي بات أمراً اقليميا ودوليا لم يفلح الحوار الحالي في إيجاد البلسم الشافي لعلاجه.
الاتحاد الافريقي الذي ظل جزءا من ملف الأزمة السودانية تقدم بمبادرة جمع فيها قوى نداء السودان المعارضة مع الحكومة في أديس أبابا ثم جمع أيضاً في اجتماع مع الية سبعة زائد سبعة التي تضم الحكومة تكتل (قوى المستقبل للتغيير) الذي أتشرف بالانتماء إليه باسم منبر السلام العادل والذي يضم عدداً من تحالفات المعارضة في الخرطوم .. لم تتوصل قوى نداء السودان إلى اتفاق مع الحكومة ورفضت التوقيع على خارطة طريق صاغها الوسيط الافريقي ووافقت عليها الحكومة .. لم تنتقد قوى المستقبل للتغيير موقف قوى نداء السودان الرافض لخارطة الطريق بالرغم من النص في تلك الخارطة على وقف إطلاق النار لكن ما أن بدأت قوى المستقبل للتغيير مفاوضات مع آلية السبعة زائد سبعة والتي تضم الحكومة بغرض إزاحة العقبة التي تعوق الطريق لحل الأزمة السودانية حتى ثارت ثائرة بعض أطراف نداء السودان وأخذت تختلق الأكاذيب وتدخل في النوايا التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وكأنها تمتلك الحق الحصري للتعبير عن هذا الوطن المأزوم وهذا الشعب المكتوي بالصراعات والحروب والفقر والجهل والمرض ناسية أو متناسية أن سلوكها هذا يتناقض تماما مع ما تتشدق به من المناداة ببسط الحريات.
فليعلم أولئك المتشنجون المتطرفون أنهم ليسوا أكثر وطنية منا في قوى المستقبل للتغيير ولا أكثر حرصاً على المصالح العليا لهذا الوطن المأزوم وليتواضعوا قليلاً فليسوا أكثر علماً ولا خبرة ولا تضحية في سبيله.
الطيب مصطفى – (زفرات حرى – صحيفة الصيحة)