تحقيقات وتقارير

أيام بن لادن في السودان وقائع وتفاصيل مثيرة (الحلقة الثانية)

من النيل إلى الجبل “الحلقة الثانية”
أصحاب النظارات السوداء يراقبونه ويحصون عليه أنفاسه.. رغم تشديد الحراسة “الخليفي” يقتحم الفيلا ويلطخ الجدران بالدماء

التاكسي الأصفر الرابض بمطار الخرطوم في إحدى ليالي العام (1991) كان يتفرس في وجوه العابرين، ويرنو إلى شخصية مهمة قادمة من بيشاور، يهبط أسامة من سلم الطائرة بجسد نحيل ووجه ملتحٍ وشعر فاحم مسدل تحت العمامة، وعينين كحيلتين تنعقد فوقهما حواجب كثيفة، طوال ساعات الرحلة كان الرجل يتأمل الأرض من علو شاهق، وقلبه معلق بالسماء، فيبدو له النيل لامعاً مجدولا كالضفيرة، ويشعر كيف أنه سيرتاح أخيراً، بعيد حياة شكسبيرية حافلة بالإثارة، ينبغي الإشارة هنل إلى وجه الغرابة الأول في هذا المساء الخرطومي الموحش، لم يكن أحد ينتظره في صالة الوصول، أبداً، ولم تكن الشوارع كلها مضاءة من العتمة، ولا أحد في الأنحاء غير امرأة حُبلى جميلة باغتها المخاض، يقضي ضيفنا ليلته الأولى في غرفة باردة بفندق الهيلتون، محاطاً بالحفاوة والألق، مثل كل الأثرياء في العالم، فهو ينتمي لطبقتهم ولا يشبههم! إنه الأن في الـ(33) من عمره، شاب تقي وورع، يتسم بالصمت المهول، لكنه لم يكن يظن على الإطلاق، أنه سيقضي أعوامه الخمسة هنا وصوت العقيد يونس محمود يجلجل في المذياع، وأنه سيتعرض للقتل دونما مرة، وسيعتقل نقطة الضوء طويلاً بجانبه، وسيدمن التخفي، التخفي ببراعة تحديداً، وسوف يصبح في غضون عشرة أعوام الرجل الأكثر خطورة في العالم، والمطلوب رقم (واحد).
طلائع المجاهدين
سيدي أسامة! هناك طرق خفيف في الباب، وهناك امرأة تسأل عنك بإلحاح، هل نسمح لها بالمرور؟ يبدو مشغولا بما فيه الكفاية، ومع ذلك يومئ برأسه ويأذن لها بالدخول، جاءته تمشي على استحياء وفي معيتها طفلة مريضة، يرق قلبه بشدة، ويستجمع كل حواسه وعقله المتعب، يصدق لها بمبلغ من المال، يفي تماماً، بالعلاج، ويتكفل بدراستها، دائما ما ينتصر الإنسان في مثل هذه اللحظات. أيها الرجل الطريد، المبذول للضعفاء، ثمة موت يتربص بك، هل تعلم؟ بلدك نزع عنك الجنسية، لم تعد مواطناً سعوديا، ولربما لا تريد المملكة أن تغامر بتنبي تنظيم جهادي، حتى لا توصم برعاية الإرهاب، أنت الآن بلا هوية، بلا وطن، محض رجل غريب، للمصادفة، فإن الخرطوم تفتح أحضانها ومطاراتها لكل المسلمين، كيفما تكون هجرتهم، يفضلها الشيخ الترابي ملاذاً لكل حائر ومطارد، دون حتى تأشيرة عبور، ولذا وصفها الصحفى الأمريكي جوناثان بأنها جنة الإسلاميين، في هذه اللحظة يعبر مطار الخرطوم رموز العمل الإسلامي العالمي، الغنوشي وعباس مدني وعلي بالحاج وبرهان الدين رباني وحكمتيار، وياسر عرفات.. ومعظم طلائع المجاهدين الأفغان المجللين بالنصر.
مطاردة الأشباح
يصلب أسامة قامته الشامخة ويطل عبر نافذة بيته، الشمس تتوارى خلف البنايات الأسمنتية، يرمقه جاره الأسقف الهولندي (ألفونس تيربكي)، يلوح له بيده مصافحاً، يبتسم أسامة! لم يكن الفونس يستشعر خطورة هذا الرجل، بل لم يكن أسامة نفسه يدرك خطورته، بحيث أنه يمكن أن يصب حمم الموت على رأس أمريكا، ويروع حكومة بوش الابن، وأن سيرته ستملأ الدنيا وتشغل الناس، حتى يصبح ثمن من يرشد عليه فقط، دعك أن يأتي برأسه، (25 مليون دولار)!
يحكي ألفونس كيف أن بن لادن: “لم يكن منفتحاً على الآخرين، بل كان على العكس لا يفضل الاحتكاك واقامة علاقات عامة”.. خلال هذه المعاشرة القصيرة يلاحظ الأسقف الهولندي ذكاء شديدا يبرق في عيني أسامة، وقدرة على التنظيم وتسيير الأمور، لكنه ـ الأسقف ـ في مقام الإنصاف يقول كلمته ويمضي: “كان بن لادن يساعد الفقراء، ويعطف عليهم، ولذا انتابني الذعر حينما سمعت لأول مرة في العام 1998 أنه أكثر الإرهابيين خطورة”.. ويضيف بلا أدنى تردد واصفاً تلك الأجواء: “لقد كان دائما أسامة محاطاً برجال الأمن، ولم يكن يتحرك لوحده، وكان يقف أمام الفيلا بانتظار سيارة مخصصة على ظهرها لوحة سعودية”. شهادة الفونس تتطابق مع بعض فصول كتاب (مطاردة الأشباح) والذي رصد تحركات أسامة في الخرطوم، وانشغل بالتفاصيل، حتى وهو يهم بالصعود على السيارة المرسيدس البيضاء، وينهب الأسفلت نهباً صوب البنك العربي في شارع علي عبد اللطيف، كل صباح. ما كُتب عن أسامة في تلك الفترة، ولم يترك شاردة، يشي تماماً، بأن أصحاب النظارات السوداء كانوا يراقبونه، ويحصون أنفاسه .
رحلة صيد
إن المدينة تتعارض بشدة مع حياة الترحال التي ينشدها الرجل، وهو مع ذلك مولع بالبادية، ويحن إلى رحلة صيد في سهول البطولة، يمتطي فرسه ويتأبط بندقيته ويطارد الغزلان والأرانب، لكنه قبيل ذلك على موعد مع الزبير محمد صالح الرجل الثاني في الحكومة، وفي الغالب كان هنالك غداء عمل خارج المنزل لدراسة كيفية تمويل بعض المشروعات التنموية، في هذا الوقت تحديداً من كل عام تتنفس الخرطوم تحت الماء، يفاجئها الخريف إلى يومنا هذا! لم تكن مزينة بالشاشات المضاءة، ولكنها أيضاً لم تكن متسخة، بن لادن كان لهم البارقة الوحيدة لاجتراح مشروعات تنموية، تكافئ قليلاً ما بشر به البيان الانقلابي الأول، أو سمه بيان الثورة الإنقاذية، المثير في الأمر أن رجال بن لادن المتخفين، وعددهم يراوح الأربعمائة شخص وصلوا قبله وبعده على دفعات، معظمهم من أشاوس المتصدين للسوفييت، ومعظمهم اكتسبوا مهارات قتالية، ليست مطلوبة الآن، المطلوب هو العمل في مجال التشييد والبناء، وبالتحديد طريق التحدي، ومشروع زراعي في النيل الأزرق، سيحمل نفس اسم شركته المشار لها في الوصية، والقابعة في شارع عبيد ختم، (وادي العقيق)، بجانب مطار بورتسودان، وكان العشم مبذولاً، أن يفجر ينابيع البترول، من بضعة مئات من الرجال، سوف تتسع الهالة حول أسامة، وسوف ينبثق عهد جديد في حياته.
الخليفي يطلق النار
نحن الآن في نهارات فبراير (1994)، إنها اللحظة التي يتأرجح فوقها بندول ساعة الخطر، كون أسامة مهددا بالموت غير الرحيم، وكونه مطاردا من كل مخابرات الدنيا، لن ينام هانئاً بعدها، لن يطمئن قلبه في الخفقان، لكن المدينة كدأبها تصلي بلسان وتغني بلسان، كما وصفها صاحب العودة لسنار، الهلال حسم لتوه الدوري، وتجلى نجومه في المباريات، تنقا وبرشم ووالي الدين، في المقابل قدر عجيب يغيب الشيخ أبو زيد محمد حمزة من الصلاة في المسجد ذلك اليوم. وفي لحظة خاطفة من عمر الزمان يظهر عبد الله الخليفي في مسجد أنصار السنة، ويفتح النار بشكل عشوائي، خليته الشريرة حصدت أرواح (25) من المصلين، الخليفي روع الناس في أم درمان واختفى، كان يبحث عن صيد ثمين، يبحث عن بن لادن، والترابي، “الموت لأسامة، الموت للكفار”.. يا سبحان الله، أسامة نفسه بعد أعوام سيهتف بذلك فوق وجه أمريكا!
تزود الليبي بخارطة طريق تبين له جغرافيا منزل الرجل في الرياض، فجأة يصحو ألفونس من نومه مفزوعاً، ثمة معركة تدور بالخارج، قريبا من مهجعه، معركة بالرصاص الحي، لم يألفها سكان الرياض من قبل، سيموت رجال كُثر في هذه الليلة، ليلة الأشباح والخطوب المدلهمة، وسوف تتلطخ الجدران بالدماء وتتخثر، لم تعد الخرطوم آمنة، مما يضاعف مهمة وزير الداخلية آنئذٍ عبد الرحيم محمد حسين، وبنهاية اليوم يكون هنالك تقرير وافٍ على منضدة الدكتور الترابي، يقلبه الشيخ في قلق بائن، ويقرأ ما وراء السطور كدأبه، الشيخ الذي تعرض لمحاولة اغتيال في كندا، لابد أن المحبوب عبد السلام يجلس بجواره في ذلك اليوم، وينصحه بتشديد الحراسة على منزل بن لادن، كل شيء في الأنحاء كان مشتعلًا، ولو قُتل أسامة على ذلك النحو، وعلى مقربة من بيت الترابي، فلن يسامح الإسلاميون أنفسهم.
مخاض يوم أسود
في مبنى صحيفة الإنقاذ وسط الخرطوم يشتعل اجتماع التحرير الصباحي بالحيرة، إنه مخاض يوم أسود، ينفض ذلك الاجتماع القصير بتكليف علي عبد الكريم والنور أحمد النور بإجراء حوار مع أسامة بن لادن، المستثمر الذي يريدونه ميتاً، يلتفت النور بخفة نحو المصور حق الله الشيخ ويطلب منه مرافقتهم، حق الله الذي يعلق الكاميرا على رقبته، يجربها للمرة الأخيرة ويعيد شحنها بحجارة كوداك، تسمع صوت اللقطة، لكن حق الله لن يلتقط صورة عامة تجمع الصحفيين مع أسامة، سيكتفي بصورة صاحب الوجه الطويل، ليس بمقدور صحفي أن يتجاوز الحواجز الأمنية، يتبادل النور وعلي الحديث، أمام أعينهما يعلق مقر المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، وجدتها! يصيح النور، لا مفر من الذهاب للشيخ إبراهيم السنوسي، ليتوسط لهما، بالفعل يخط السنوسي مذكرة صغيرة تنفتح أمامها الأبواب المُسلحة، يصف النور ذلك المشهد، بل يستعيده لـ(اليوم التالي): أسامة كان بعيداً عن الإعلام، ومنزله كان مؤمناً من الخارج، والبيوت المجاورة معظمها تم استئجارها، وامتلأت بالحراسة، يجلس النور ورفيقه في الصالون المخصص للضيوف، ليس ثمة مقاعد، بل كان الصالون مفروشاً على طريقة الجلسات العربية، عليها المساند الكبدية، كان مطلوباً منهم الجلوس، الطباخ المصري الذي أصبح مؤذنا فيما بعد يحضر عصير المانجو للضيوف، يرتشفونه على دفعات، بعد خمس دقائق يطل عليهم أسامة، بأسمال بيضاء، وابتسامة ناصعة تبين مفترق أسنانه، كان هادئاً ويحمل (مسواكا) في يده، يبدو أنه صائم، حوله بعض المساعدين يطرقون السمع، من ضمنهم العراقي مدير شركة (وادي العقيق)، كان عددهم أربعة، يكاد يبتلعهم الصمت، ونادراً ما يتحدثون، كانوا مثل الحيران، يوقرون الشيخ ويحيطونه بهالة روحية، كان أسامة يسكن في الطابق الأعلى، وخلال جلوسه كثيراً ما يظهر ابنه حمزة، يسلمه بعض الأوراق، وأحياناً يهمس له في أذنه، في الحقيقة كانت هنالك ثلاث دوائر تأمينية، واحدة بالداخل، وأخرى بالخارج، والثالثة متحفزة فوق البنايات المجاورة، ولربما كانوا قناصة، بل كانت العناصر الأمنية منتشرة طوال شارع الجزار، ما يصعب إغفاله، أن أسامة الذي تحدث بصوت خافت، كرر عبارة (أوف ريكورد) أكثر من مرة، مما يعني أن هنالك حوارا موازيا ليس للنشر، سنتعرف عليه في الحلقة المقبلة، وسنتعرف لأول مرة على مخاوف بن لادن المكتومة، وكيف كان الرجل يفكر بصوت مسموع.
نواصل

عزمي عبد الرازق
اليوم التالي
بن لادن

تعليق واحد

  1. انه من يهده الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليــا مرشدا

    حاول الكاتب بخبث ان يربط بين مسجد انصار السنة في امدرمان و بين بن لادن و الترابي قاطني الرياض و المنشية
    فى الاعتداء على مسجد انصار السنة بالثورة ام درمان
    انصار السنة كانو هم المستهدفين من قبل مليشيات الترابي الامنية كانو هم الضحية و المجرمين هم الترابي و من معه
    الحمد لله الدي خلصنا منه

    و في هدا رد على كل من يتهم المنهج السلفي لانه تفجيري و منهج تكفيري

    اهل الحديث هم اكثر الناس معرفة بـأن هده الامور ليست من الدين و من يقترفها ليس على سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم