الغياب وجه الوجود الآخر.. ياللعيد دون أمي.. بت الزين
يصف الراحل الطيب صالح الموت بأنه معنى آخر من معاني الحياة في شهر فبراير.. كانت أمي تستبق الساعات.. تفعل ما ظلت تفعله على الدوام تضع ابتسامتها لتضيئ كل الشوارع.. بدت بت الزين كمن يحس باقتراب ساعة الوداع والرحيل، وهو مطالب بأن يضع ذاكرته في كل مكان تكتبها على طريقة المحبة. وتكمل بت الزين الحكاية بالقول إنه سيأتي عليك (العيد) دون أن تتذوق حلاوته.. سيعبر من فوقك.. وعليك فقط أن تكون بالجلد الذي يمكنك من المقاومة.. حقاً الموت هو معنى آخر من معاني الحياة.
هو عيدك الخاص يُوقِّع عليه الآن الغياب بالحضور والأسئلة المتناسلة.. يودعك السر الزين على طريقته.. ويا يمة يا بت الزين فايتانا خاترة وين نحن عليك ماشين؟ زرعنا البذرناه من سنين يا دابو فرهد يملأ العين.. منو البسقيه منو البرويه شوق الناس السمحين.. باكياك كل القلوب فاقداك كل الدروب، حسرة وأنين.. فايتانا خاترة وين؟
ست النساء
يا ست النساء هو الحادي والعشرون من مارس لم يكن أوان الكتابة، لكن لا شيء يبقي على طبيعته، خصوصاً عند ذلك الذي يخوض معركته مع الغياب والرحيل، وذاكرته المحتشدة بالتفاصيل.. قبل عام كنت أرفع سماعة الهاتف قائلاً (كل لحظة وأنتِ العيد).. يكفيني من الرد ربنا “يعدلا عليك محل تقبل”.. عندها تتسع كل الأماكن الضيقة الخرطوم الحزينة.. تكبر كراعا من الفرح.. وأمضي بخطواتي في دروب كنت قد رسمتيها لنا مسبقاً أن أصبحوا “قدر قيمتكم وبحجم كرامتكم”.
كيف نمشي؟
الموت معنى آخر من معاني الحياة، ولكنها للأسف حياة منزوع عنها دسم الحياة، ترى كيف يمكننا أن نمشي في دروبها؟ وأنت تغمض عينيك مودعاً ذلك الذي لا صباح بعده.. تسكنك مدن الضلمة المفروشة بغيابها.. تطاردك تفاصيل التفاصيل.. أها أكلت؟ خلي بالك من نفسك.. السهر ده كعب عشان صحتك.. ما تتلوم.. أها حبوبتك أصبحت كيف؟ وغيرها لتصبح على حقيقة أنك صرت يتيماً، وأنه حتى الأغاني فقدت معناها.. تذهب إلى ذات الموبايل لتغير نغمة الاستقبال لأغنية غير (أمي الله يسلمك) لأي أغنية أخرى.
يعصرنا الغياب
هي خمسون يوماً، ونحن يعصرنا الغياب.. نجلب ما تبقى من الصبر في الأسواق.. نحاول أن نرسم الضحكة، ولكنها تخرج مثل كل الأشياء بلا طعم أو رائحة، فقط (نكهتك) تظل في ذات مكانها لا تذهب، بل تبقى لتنبت في الأرض ضحكات.. من قال إن الأمهات يمتن؟ كل ما يفعلنه أنهن يرحلن من مكانهن في الخارج ليسكن في أعماقك، ويعدن ذات التفاصيل القديمة “قوم صلي.. ما تتأخر.. اسمع الكلام”.
جميل الذكريات
يقول أحد أبنائك، وهو يحقنني بأنسولين جديد للصبر “دعك من زيف صيوانات العزاء.. وما انسكب فيها من مالح الدموع.. فبت الزين التي أعرف يكفيها من هذه الدنيا الخراب.. إنها أرضعتك ما يكفي من جلد.. لتقف ما دمت حيا مسنودا بكامل الأمل.. وجميل الذكريات”.. وهو ما أفعله الآن يدق على بابي العيد، فأكرر ذات النصوص.. ما زلت اتسكع في مدن عينيك.. أتزود بالضياء.. أخبرهم عنك أن هذه الأنثى نسيج وحدها يانعة كأزهار الشتاء.. منورة كقمر أربعتاشر.. عذبة كمياه النيل.. تدخلك من كل الجهات.. أدور الآن.. أبحث عن امرأة لا تشابه النساء.. أفتش عن عيون أمي وأجدها.. ألم أقل لكم إنهن لا يجدن أساليب الغياب؟ ألقاها في وجوه كل الأمهات.. ألقاها دموعا ودماء وظلما وقهرا وقانونا، مهنته مطاردة النساء ونساء يمهدن لك الطريق أن اذهب إلى الشمس البعيدة وابقى عيدها.. كُن فقط (الحليب) الذي رضعته بقيم النبل والطهر.
عيدنا الدائم
بت الزين وأنتِ في البرزخ العيد ناقصك، ولكنك لا تزالين عيدنا الدائم، الذي لا ينتهي.. كلنا كويسين وفاقدنك.. الأمهات لا يزلن يمتن بالحرب ويمتن بالولادة وبقهر السلطة وباغتراب الوليدات، لكنهن في المقابل لا يزلن يحبلن ويمنحن الأرض كل يوم جديد مولوداً اسمه (الحياة).
وسلاماً يا أمهات الأرض قاطبة وألف سلام وتحية لروح أمي في البرزخ
اليوم التالي