طفل بحريني مرض والده فعمل «حمّالاً» فحوَّل ألمه إلى ثروة
في أول يوم له في الحياة، ولد في أسرة فقيرة، وفقد بصر عينه اليمنى في السنة الثانية من عمره، وحرم من بناء مستقبله الدراسي في العاشرة من عمره، وفي الثانية عشرة من عمره حرم من اللعب وأجبر على العمل الشاق من مطلع الفجر حتى الليل.
تزداد الحياة قسوة ومرارة، والواقع المتوحش يعصره بقوة تكاد أن تفتك به، ولكنه كان كالفاكهة عندما تعصر تعطي ألذ العصائر، فآمن بأن الله يريد أن يخرج أجمل ما فيه.
فأشعل هذا الإيمان نار الإرادة في قلبه، فخاض معارك الحياة، وانتصر على قسوة الدنيا، كانتصار الشمس على الظلام. ولم يكتفِ بتحقيق هدفه الأول المتمثل بإبعاد شبح الجوع عن أسرته، بل الآن يساعد العوائل المحتاجة، ويقدم منح دراسية للشباب.
كبر هذا الطفل، وأصبح عمره اليوم 78 سنة، إنه ميرزا يوسف أحمد الحلي الذي ولد في عام 1938، الذي كان كل شيء سيء يصيبه رغم عنه وفوق إرادته، لم يكن كذلك، بل كان حكمة لا يدركها. ففقدان بصر عينه اليمنى كان سبباً لأن يدفعه نحو التجارة وتحقيق النجاح الكبير. وهو اليوم واحد من كبار التجار في قطاع التجزئة والمواد الغذائية.
ويحكي الحلي لـ «الوسط» قصته بشكل موجز، قائلاً:
ولدت في أسرة فقيرة، في قرية الحلة، وأخبرني أهلي أني فقدت بصر عيني اليمني بعد ولادتي، سنة ثانية أو ثالثة.
وكانت الحياة قاسية جداً، ونحن صغار في الرابعة أو الخامسة من العمر، كانوا يوقضونا من الصباح الباكر، ويطلبون منا سقاية المزرعة، وجز العشب للماشية، حتى أننا أحياناً نعمل بدون أن نأكل فطور الصباح، إنه صراع من أجل الحياة.
وفي السنة الثامنة من عمري أخذني أبي إلى المدرسة، ولكن بعد سنتين أصيب والدي بمرض أجلسه طريح الفراش.
في ذلك الزمان عندما يصيب الأب شيء، فهذا يعني أن العائلة لن يكون لها ما تأكله، وأن شبح الجوع يقترب، فكنت مكرهاً على ترك المدرسة، وكأن قسوة الحياة تحرمني من بناء مستقبلي الدراسي ، وأن أعمل حمالي في السوق بهدف إبعاد شبح الجوع، وتوفير لقمة العيش لأسرتي (أبي وأمي وأخوين وثلاث أخوات).
كان أخواي وأخواتي أطفال صغار، وأنا أكبرهم وعمري 10 سنوات، فكان مدخولي من مهنة الحمالي في سوق المنامة القديم بين روبيتين وثلاث روبيات (200 و300 فلس) في اليوم الواحد.
وبعد سنة تقريباً تعافى والدي، وبدأت أذهب مع أبي، حيث يقوم أبي بشراء الفواكه والخضراوات، ثم نبيعهم بالتجزئة، وفي ذلك الوقت كان البيع بالدرزن (العدد)، وليس بالكيلو، وكان مدخولنا في اليوم 500 فلس تقريباً.
فقال لي شخص لماذا لا تعمل في بيع الكيروسين (الگاز) مع الحاج أحمد المبارك، فعملت معه وأنا في الثانية عشر من عمري، براتب خمس روبيات في اليوم ما تعادل 150 روبية في الشهر.
كنا نبيع (الگاز) على الخبابيز والبيوت، إذ نخرج من الصباح الباكر من جدحفص إلى السلمانية ثم إلى الحورة ثم إلى أم الحصم والغريفة ولا نرجع إلا بعد أذان المغرب.
ولا يوجد وقت للرجوع للبيت، فكنا ننام في بيت النوخذة أحمد المبارك بجدحفص، فالعمل من الصباح حتى غروب الشمس، في نهاية الشهر أذهب البيت لأعطيهم الراتب، وأحياناً لا أذهب للبيت ويتم إرسال الراتب. لم يكن هناك وقت للعب أو الترفيه، الحياة قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
طلب والدي مني أن أتزوج، فرفضت، بسبب الوضع المادي وعدم وجود مكان، حيث كنا نعيش في غرفة واحدة مصنوعة من سعف النخيل، تضم أبي وأمي وأنا وإخواني وأخواتي.
وبعد إلحاح من الوالد، وافقت، فبحثوا عن فتاة، وفي كل مرة يجدون فتاة، يتم الرفض من أهلها بسبب الوضع المادي.
ومع البحث أحدى العوائل في المنامة وافقوا، ولكن بعد الخطبة، انفصلنا بسبب طلب أهلها أن أعيش معهم، وأنا في ذلك الوقت لا أستطيع أن أترك أبي وهو مريض طريح الفراش، حيث بقي والدي مريضاً لمدة تصل إلى 12 سنة قبل أن يتوفاه الله، وكنت أنا من أقوم برعايته بشكل مباشر.
وقررت أن أتزوج من إيران ووقف معي عمي عبدالغني الزيمور وساعدني في مبلغ السفر مع المبلغ الذي أعطاني إياه والدي، وحصل بعدها التوفيق مع أم حميد رحمة الله عليها، وأنجبت لي 5 أولاد وأربع بنات.
الزواج سبب لنقطة تحول
الزواج كان نقطة تحول، فعندما تزوجتُ قلت لرب عملي إن 500 فلس لا تكفي لمصاريفي فقد زادت مسئولياتي، فكان رده بكل برود: عملك معي انتهى.
فنظرت إليه، فنظر إلى عيني مبتسماً، وقال بكل بساطة: «أنا أهبك «القاري» و«الحمار» ملكًا لك ولا أريد منك مقابل ذلك شيئًا.
فشعرت بسعادة، وهذا رفع دخلي ليصل بين دينارين وثلاثة وأربعة في اليوم. فالزواج كان بركة وجلب الخير.
استمررت في مهنة بيع «الگاز»، وجاءت أيام نخرج قبل طلوع الفجر الساعة الثانية صباحاً بسبب أزمة نقص في «الگاز»، وذلك لأننا كنا إذا ذهبنا إلى محطة «گاز» جدحفص متأخرين لا نحصل عليه وينفد، ولا نعود البيت إلا في الليل.
حتى إننا في الرجوع ننام فوق «القاري»، والحمار يسير بنا لوحده يعرف الطريق، ولا يتوقف إلا عند باب المنزل.
ثم اشتريت أرضاً في الديه، وبنيت المنزل، وفتحت دكاناً صغيراً في المنزل، لبيع البيبسي والمينو والجبس والحلاوة. وكانت أم حميد تبيع على الأطفال أثناء عملي في بيع الگاز حتى أعود.
وبعدها شاركني أخي، وفتحنا بقالة، لبيع مواد غذائية. وهي مدخول ثانٍ بسيط، إضافة إلى عملي في بيع «الگاز»، ولكن أخي تنازل عن الشراكة عن حب ومحبة، فهو كان يريد الخير لي.
وذلك بعد، أن حذرني الطبيب تحذيراً شديداً، بأنني إذا واصلت عملي في بيع الگاز في حرارة الشمس، سوف أفقد بصري بالكامل.
فقال أخي: أنا أعمل في شركة، وأنت ليس لك عمل إذا تركت بيع «الگاز»، فخذ هذا الدكان وأعمل فيه، ليكون لك مدخول.
فقلت له: الدكان مدخوله بسيط، لا يغطي مصاريف أسرة. ولكن أخي كان يبث مشاعر الأمل والتفاؤل، ويقول: «استمر وسيفتح الله لك الخير، اصبر».
فعملت في الدكان، وتساعدني زوجتي أم حميد، وأبنائي، وقمنا نطور من الدكان ونزيد من بيع المنتجات، وبنينا علاقات طيبة مع تجار الجملة.
وعندما قامت جمعية جدحفص الاستهلاكية بعرض مبنى خلف محطة البترول بالديه، رأينا من المناسب أن نبدأ فيه، وبعد مفاوضات مع الجمعية اتفقنا على استئجار المكان وكان ذلك في سنة 1997 تقريباً.
ومساحة المبنى 1000 متر مربع تقريباً وبحاجة إلى رفوف كثيرة وثلاجات ومواد غذائية، فهو يحتاج إلى رأس مال كبير لا نمتلكه. فكانت مغامرة.
ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان، وهو أن الثقة أصبحت مصدر تمويل.
فعندما كنا نبيع في الدكان الصغير، تكونت لنا علاقات طيبة مع تجار الجملة، وتكوّن بيننا ثقة عميقة، بحيث ندفع لهم كل أموالهم من دون تأخير دقيقة واحدة. وهذا بنى الثقة.
ولهذا التجار زودوا السوبر ماركت الذي فتحناه في الديه، لأنهم يثقون كل الثقة، أنهم سيحصلون على أموالهم. فالثقة مصدر تمويل. والثقة تأتي من الأمانة والصدق في التعامل.
وأولادي قاموا بتوسيع الشركة، حتى وصلت إلى ما هو عليه الآن، حيث تدير الشركة الآن ثلاثة «سوبرماركت»، وأحد في الديه، والثاني في عالي، والثالث في توبلي. وهناك فكرة للتوسع.
وعن الحكمة مما أصابه في صغره، ذكر الآية القرآنية، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ…). وقال: فقدت بصر عيني اليمنى في طفولتي، ولو لم أفقدها لكنت الآن عاملاً في «بابكو»، لأن قبول العامل يكون بعد اختبارات ومنها اختبار البصر.
أو قد ينتهي بي المطاف إلى بائع «گاز»، وهي مهنة انتهت وانتهى من يعمل فيها، ولكن بسبب فقدان البصر لم أعمل في «بابكو»، وبسبب ذلك، أيضاً تركت العمل في بيع «الگاز» وتوجهت إلى التجارة وبيع المواد الغذائية، ليتحقق هذا النجاح.
وعن نصيحته لجيل الشباب الحالي قال: «أنصحهم بطاعة الوالدين وعدم عقوقهما والإخلاص في العمل والسعي للقمة الحلال وبهذا سيحصل على التوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى». وعن نصيحته للشباب الداخلين في المشاريع التجارية قال: «إنه على الشباب الداخلين في المشاريع التجارية إذا كانوا يتخوفون من الإخفاق في المشروع فعليهم أن لا يدخلوا بكامل قواهم في المشروع، بل بالتدرج والتأني والحذر إلى أن يستطيع تثبيت قدميه في المشروع ويتمكن منه».
وذكر أنه لو لم يتوفق في مشروعه لعاد إلى عمله السابق قائلاً: إن العمل ليس عيباً، لافتاً إلى أنه إلى هذا اليوم وخلال تواجده في محله بالديه لايزال يقوم بنفسه بالتنظيف والترتيب والذهاب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات التي قد لا تتوافر ولا تتواجد حتى في أفرع أسواق الحلي الكبيرة، وأنه يحرص كل الحرص على أن لا يدخل زبون المحل إلا وأن يجد ما يحتاجه من مبتغياته في داخل المحل.
ويؤكد الحاج ميرزا الحلي أنه لا يحب الاتكالية في العمل، فلايزال إلى الآن يقوم هو بنفسه بعمل الشاي للأولاد في الصباح ويعمل على غسل كوبه بنفسه.
الوسط