مع «حافظ دايات» في مدرسة القابلات ..!
« قيمة الصحة أكبر كثيراً من قيمة التعليم» .. توماس جيفرسون ..!
أكتب هذا المقال وأنا تحت تأثير شعور عارم بالأمل الجليل والتفاؤل المنعش..أكتبه لأشارككم فخري وسعادتي بنساء بلادي، بعد زيارة قمت بها إلى مدرسة القابلات ببحري ..ذلك الصرح الذي ولد في ستينيات القرن الماضي، والذي يعمل القائمون على أمره بنظام تعليمي قويم ومنهج إصلاحي متكامل، لمكافحة أهم المشكلات التي تؤرق حاضر الصحة العامة في بلادنا،والتي كانت تهدد – بلا أدنى شك – مستقبل أمومتنا الآمنة ..!
هناك في مدرسة القابلات ببحري رأيت زهرة جبريل .. وبثينة .. ونجاة .. وأخريات من نساء بلادي الناجحات يعلمن في دأبٍ شديد وهمةٍ عالية وصمت نبيلٍ لتطوير مستوى الأداء في مهنة شهدت بلادنا عصر ازدهارها قبل أن ينحسر احتفاء الدولة والمجتمع بها، وقبل أن توشك مقومات نجاحها التي أسستها أعظم رائدات القبالة أن تنهار .. أقول «كادت» لأنني وقفت هناك على أول وأولى أسباب تراجع نسبة وفيات الأمهات (قوة المناهج .. جودة التدريب .. دقة النظام الإداري والجهد العالي المبذول لترقية السلوك .. والأهم من ذلك كله مجانية التعليم الكاملة «مائة بالمائة»، تلك الميزة التي افتقدناها كثيراً وطويلاً في مؤسساتنا التعليمية) ..!
طالبات من «جزر القمر» و»جنوب السودان» وسيدات في منتصف العمر وفتيات يافعات، أتين من أصقاع بعيدة وقرى نائية، لا يحملن هم رسوم الدراسة ومصروفات المعيشة، تحتضنهن تلك القلعة الهادئة، فينعمن بالتعليم المجاني والتدريب الجيد والتأهيل الدقيق داخل أسوارها، ويخضعن لنظام إداري صارم (يقبلن مفارقة الأهل والأبناء ثلاثة أشهر كاملة بلا خروج لزيارتهم .. ويقبلن أن يقتصر الخروج على زيارة واحدة كل أسبوعين .. وتكتب المتزوجات منهن تعهداً بعدم الحمل طيلة مدة الدراسة التي تمتد لشهور طويلة يتعلمن خلالها فنون ومهشارات الاتصال والتواصل،والتعليم والتعلم، والرعاية الصحية بكل مكوناتها، ويدرسن تاريخ مهنة القبالة في السودان فينهلن من علم رائدات عظيمات كالست بتول ومس وولف .. ولا يحصلن على شهاداتهن قبل أن تقوم كل طالبة منهن بتوليد عشرين سيدة على الأقل، وبعد أن تقارير معتمدة من أطباءواستشارييالنساء والولادة، فضلاً عن الامتحان الخارجي الذي تشارك فيه زائرات صحيات من وزارة الصحة الاتحادية) ..!
يوم الأحد الماضي شهد تخريج الدفعة الرابعة والأربعين في مدرسة القابلات ببحري، ويعقب ذلك أن تستلم كل قابلة شهادتها المستخرجة مجاناً بيد، و»حقيبة قابلة» مجانية بيد أخرى – كما يقضي نظام المدرسة – وتعود إلى مسقط رأسها، لا لكي تسهم في انحسار نسبة وفيات الأمهات فقط، بل لتسهم في تطوير السلوك الحضري وترقية الوعي الصحي في مجتمعها المحلي كله ..!
الأستاذ «حافظ صديق» المدير الإداري والمشرف على مدرسة القابلات ببحري، الذي اشتهر بين إدارات الوزارة وفي أوساط القابلات بلقب «حافظ دايات»، رأيت له بين جموع القابلات وجهاً آخر حق له أن يفاخر به، وسمعت منهن عن جهده الكبير وأفكاره النيِّرة وأفعاله الخيِّرة ما يجعل هذا «اللقب الطريف» وساماً على صدره، وتاجاً على رأس مسيرته المهنية الحافلة بالنجاح ..!
بقي أن أقول إن تلك القلعة العلميةالعامرة تنغص عيشها مشكلات كبيرة في الصرف الصحي، وهي تحتاج بشدة إلى شبكة صرف صحي تليق بعطائها الوطني العظيم .. فهل من مُذَّكر ..؟!