محجوب عروة : زمان الترابي في عليائه … (2)
اختتمت أمس مقالي بالقول إن المرحوم د. حسن الترابي بعد تسنمه زعامة الحركة بلا منازع عقب ثورة أكتوبر ۱۹٦٤ طور كيان الحركة وعبر بها تضاريس الحياة السودانية والعربية وأمواجها المتلاطمة عبر نهج العمل السياسي المفتوح حسب الأحوال والتقلبات السياسية بديلاً عن النهج التربوي المنغلق حتى أصبحت إحدى حقائق الحياة السياسية السودانية، بل والإقليمية بعكس حركات إسلامية كثيرة وجهت لها الأنظمة المناوئة ضربات قاسية وموجعة.. ومن المؤكد أن من أهم الأدوار التي قام بها د. الترابي بأصول فقهه المتجدد المستوعب لحقائق وتطورات العصر مع استصحاب الأصل هو أن فتح لها آفاقاً واسعة في الحركة النسوية السودانية سيما وأن المرأة تشكل عادة نصف المجتمع في حين كان ذلك أمراً صعباً الأمر الذي أعطى الحركة الإسلامية السودانية أبعاداً جديدة فاق بها كثيراً من القوى السياسية الأخرى خاصة اليسارية التي كان لها شبه احتكار في هذا القطاع الاجتماعي الهام والكبير، بل من المؤكد في ظل التنافس السياسي القادم سيكون له أثر كبير مستقبلاً في الوضعية والتركيبة السياسية والاجتماعية في البلاد خاصة حجم التمثيل النيابي والتنفيذي .. صحيح أن د. الترابي في الفترة الأولى بطبيعة الحال بحكم الوضعية الجديدة التي لم تأتِ عبر صندوق الانتخابات الحرة كان مع نهج التمكين وربما اتسم بقدر من التشدد السياسي تجاه الآخرين ولكن من الواضح أنه رأى بحكم تطوره السياسي الواقعي بعد استشرافه لتجربة تسع سنوات للإنقاذ وذكائه المعهود الوقاد وبنهجه الاستراتيجي خاصة بعد تسنمه رئاسة المجلس الوطني أحس إحساساً عميقاً بأن تلك الوضعية لم ولن ولا يمكن أن تحقق نمواً « مضطرداً وأفضل لحركته ودولته الوليدة وأنه لابد أن يحدث قدراً واسعاً من الانفتاح الفكري والسياسي فكان أن فرض بقوة منطقه وشخصيته مفهوم التوالي السياسي الذي مهّد للتعددية الحزبية والاعتراف بالتنوع في بلد واسع كالسودان وربما كان ذلك سبباً مباشراً فيما حدث بعد ذلك من خروجه من المؤتمر الوطني الذي كان يبشر به ابتداءً« وكان يظن فيه أنه سيكون الكيان الجامع لأهل السودان فلم يحدث ومن ثم أسس حزب المؤتمر الشعبي الذي أصبح معارضاً شرساً للنظام ولكن أعتقد أن الترابي بخبرته السياسية الواسعة ونهجه الاستراتيجي خاصة بعد الانتكاسات التي حدثت للربيع العربي الذي تحول الى فوضى ودماء وفتن قدّر أن المضي في المعارضة سينتج في السودان فوضى وفتناً أكبر وأخطر ربما مما حدث في معظم دول الربيع العربي فآثر التحول الى نهج المصالحة والحوار مع النظام الذي أقصاه واعتقله ووجد منه تبريحاً كثيراً، وكأني به يتمثل قول الشاعر محمد سعيد العباسي في رائعته الشعرية عهد جيرون : (كففت غرب التصابي والتفت الى حلمي ولم أك في هذا بمغبون) و( صرت لا أرتضي الا العلا أبداً ما قد لقيت من التبريح يكفيني). ولعله من نافلة القول وأسرار فترة الخلاف مع بعض أبنائه الذين دفع بهم للأمام منذ فترة ولم يخلصوا له أنه لولا حكمة الترابي وإصراره على عدم اتخاذ أي مواجهة عسكرية – كما حاول بعض الشباب المتحمسين حوله دفعه اليها- ضد الذين أقصوه لأدى ذلك الانشقاق الى أوضاع خطيرة ومأساوية داخل الحركة والنظام فكان ذلك تصرفاً حكيماً منه وربما انتهى به مؤخراً الى نفس الحكمة بديلاً لما ظنه خطأ اللجوء الى الانقلاب العسكري ابتداءً «بديلاً للممارسة الديمقراطية للدفع بفكرة الحوار بديلاً عن المواجهة باعتبار أن الحوار هو أفضل الخيارات لبلد كالسودان يمكن أن يكون أخطر مما حدث في دول الربيع العربي… وأخيراً ليس آخراً فإن الكتابة عن الراحل العظيم المقيم د. حسن عبد لله الترابي يحتاج لمجلدات فمن المؤكد أنه أكثر من ترك بصماته على الحركة الإسلامية السودانية امتدت آثارها خارجاً وعلى الحياة السياسية السودانية فاق بها أقرانه الآخرين.. أما ما سيؤول اليه الوضع بعد غيابه فذلك شأن آخر ربما نعود اليه حسب تطور الأوضاع فلا نستبقها ولكن من المؤكد أنه بغيابه هذا الذي قدره خالقه لله عز وجل مؤشر لوضعية جديدة لا يعلم كنهها الا لله سبحانه عالم الغيب والشهادة.. ولا يسعنا الآن الا أن نتذكر قوله تعالى ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ، و( إنا ﻟﻠﻪ وإنا اليه راجعون) ..