بالصور .. سأمضي لا أبالي إن رحلة العمر كفاح.. مع إيمان بائعة الصحف
طبيعي خروج من هم في مثل عمرها للعمل، لكن غير الطبيعي في تجربة (إيمان حسن على) أن ضيق الفرص لم يقف عائقا أمامها، فاختطت طريقها بعزيمة دون أن تضع لطموحها في العمل سقفا تتقاصر دونه. وبمجرد نهاية دراستها الجامعية في كلية الإعلام بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا لم تعلن (إيمان حسن) ظلام العطالة، إنما اتجهت لتوقد شمعة عمل داخل كشك صغير اختارت له مكانا قصيا داخل الحارة (38) بأم بدة. قررت إطلاق مشروعها المتمثل في بيع الصحف والأدوات المكتبية والرصيد دون رهبة أو خوف من موقع كشكها الكائن خارج نطاق حركة الناس ومرورهم اليومي، بل كان هذا دافعا آخر لها لتعزيز يقينها وتقوية ثقتها في النجاح، حيث شارف اليوم عامها الأول على نهايته وهي تراقب شمعتها تغطي الظلام من حولها.
تحدٍّ وعزيمة
حين وقفت (إيمان حسن) لأول مرة أمام صالح حماد صالح صاحب مكتبة أبو أبوملاذ الذي يتولى مهمة توزيع الصحف اليومية للمكتبات والسريحة بسوق ليبيا، وما جاوره من الأحياء، اعتقد بيقين قاطع أنها ترغب كبعض الفتيات من هن في مثل عمرها في شراء صحيفة يومية تطالع فيها الأبراج وتقرأ بعض أخبار الرياضة العالمية وقليل من الحوادث، لكنه أصيب بالحيرة وفغر فاه دهشة، حين أخبرته أنها ترغب أن يسجل اسمها ضمن قائمة أصحاب المكتبات الذين يوزع لهم الصحف يومياً. حار صالح بادئ أمره وعجز عقله عن إيجاد رد مقنع يلغمها أياه، فرضخ أخيرا أمام إلحاحها وإصرارها، فوافق على منحها ما يقارب المائة صحيفة يومياً وتأكيدا على تعاطفه معها قرر توصيل الصحف لها في مكتبتها في الصباح وتتكفل هي بإعادة الراجع نهاية اليوم. هذا جانب من حكاية إيمان التي أثارة فضول الكثيرين، وهم يشاهدونها عائدة نهاية اليوم وبيدها حزمة صحف، فيسألها بعضهم هل أنت تقرأين هذه الصحف كلها، وحين يعلمون أنها تبيعها يبدون إعجابهم، ومنهم من يقرر بأنه سوف يكون زبوناً دائماً لها تشجيعاً على جهدها ومثابرتها في الحياة.
ندية وإصرار
ليس سيرة عمل ما نعكف على عرضه هنا إنما محاولة لإبراز جد واجتهاد متفرد سلكت صاحبته دربا تعود الناس مشاهدة الرجال وحدهم يخطون عليه، وحين ولجته أنثى اصطدمت بفضولية البشر، أكثرهم أبدى إعجابه والقليل منهم أظهروا إشفاقا في غير مكانه، لا لشيء، إلا لأن فتاة في مقتبل سنوات عمرها النضر كسرت صخر العطالة المتفشية بعزيمة فولاذية، وخرجت لسوق العمل لترتزق حلالا من بيع الصحف اليومية والأدوات المكتبية وتحويل وشراء الرصيد. فالمعجبون بعزيمة (إيمان حسن علي) وإصرارها على تحدي المستحيل وتأكيدها أن الإنسان قادر على تغيير وضعه الاقتصادي والخروج من دائرة الكفاف بابتداع فرصة تناسبه، يرفعون لها قبعاتهم احتراماً كلما مرت من أمامهم تحمل راجع الصحف أو مروا هم من أمام كشك عملها على تخوم الحارة (38) بأم بدة. أما الذين يحيطهم العجز ويفتقرون للإرادة ويطغى عليهم الضعف يقللون من قيمة عملها، ودائما يوجهونها للبحث عن عمل يناسبها كبنت، بحسب وصفهم، في وقت عجزوا هم عن العثور عن عمل يناسبهم هم كرجال!!
مواقف وطرائف
مواقف طريفة تتعرض لها (إيمان حسن) باستمرار منها عندما لا يراها الزبون من الرجال يصيح عليها “يا ولد أرفع رأسك أديني جريدة”، وحين يكتشف أن صاحب المكتبة هي فتاة وليس ولداً يقدم لها اعتذاره بشدة، وأغلب هؤلاء يصبحون زبائن لها مداومين حتى لو كان مكان عملهم في الخرطوم لا يذهبون له قبل أن يأخذوا صحفهم المحددة منها. وأما الشباب ينادونها قبل أن يروها (يا أصلي) و(يا راسطة) و(ياحبة) و(ياود أبوك)، ومفاجأتهم تكون عظيمة حين يكتشفون أن الأصلي هو (أصلية) في الأساس. لا أفراد المجتمع وحدهم من يتعاطفون مع (إيمان حسن) في مهنتها المحبوبة كذلك فعلت محلية أم بدة وكحالة نادرة لم توفد لها متحصلا يطالبها برسم بعينه، ولهذا تعتقد إيمان أن المحلية تعمل معروفاً بعدم مطالبتها لها بفرض رسوم عليها.
فكرة (إيمان حسن) تكاد لا تُرى بالعين لو تمت مقارنتها بأفكار كثيرة أخرى، إلا أنها ورغم صغرها تؤكد حقيقة غائبة عن مئات الشباب من الجنسين، يجلسون على رصيف انتظار وظيفة حكومية أهدروا سنواتهم في البحث عنها، ولا يزالون عاقدي العزم على الانتظار دون التفكير في طرق أبواب رزق عديدة بينهم وبينها قيد أنملة فقط.
محمد عبدالباقي
صحيفة اليوم التالي