سنة أولى دولة
لما كانت الجموع تتقاطر على منطقة الكريمت بولاية الجزيرة لأجل العلاج بالكي، وذلك على حين اتساع دائرة الأخبار يومئذٍ، بأن رجلا صالحا في الكريمت قد استيقظ من نومه ذات صباح برؤية، ذهب على إثرها في علاج كل الأمراض بوصفة كي واحدة !!
* بحيث خلفت (ظاهرة الكريمت) جدلا كثيفا حول جدوى العلاج الروحي والبلدي، مقارنة بالطب الحديث، فذهبت يومها لأكتب مقالا باهظا تحت عنوان (من كرمة إلى الكرمك.. ومن كريمة إلى الكريمت.. حيرة أمة وتردد شعب)!! على أننا – أمة سودانية – خلال مسيرتها الوطنية الممتدة لم تحسم أموراً بديهية ومفتاحية في عملية تأسيس الدولة، كما لو أننا نعيش فعلا (سنة أولى دولة)!! فيومها أيضاً كان يدور جدل محتدم بين الانفصال والوحدة، ثم لا نزال في نظام الحكم بين جدل (إفراط العسكر) و(تفريط المدنيين)!! هل نبقى على الحكم الفدرالي أم نعود إلى الأقاليم !! وعند رفاقنا الشيوعيين (المديريات)!! فليس بإمكانك أن تزعم أن الحزب الشيوعي السوداني متخلفا نصف قرن وهو يتمسك بنظام المديريات!! فما تراه تخلفاً هو عندهم نضال ممتد يناهض كل مسميات وتعديلات الشموليين.. ولا يعترف بها ولا يعترف بهم!! ويمتد الجدل حول كل شيء.. الدولة الدينية أم المدنية !!تحرير الاقتصاد أم تقييده وتسعيره!! المدرب الأجنبي أم الوطني في حالة تدريب كرة القدم !! نزرع القطن في موطنه التاريخي بالشمالية أم نستوطنه بالجزيرة!! وهل الأفضل أصلا الإبقاء على القمح أم العودة إلى القطن!! وأي القوانين أجدى لعمليتنا الزراعية، وخلاف حول الهوية والدستور وهذا لعمري السطر الأول في كتابة عقد الدولة!
* فثمن (البوهية) الذي نهدره في كتابة ومسح وإعادة كتابة أسماء المؤسسات وتغييرها من حين لآخر، مثال وزارة الشؤون الهندسية ومرة الأشغال ومرة التخطيط العمراني ومرة البنى التحتية !! فثمن كتابة هذا التغيير في المستندات واللافتات فقط يمكن أن ينشئ لنا مصانع ويقيم مزارع، فضلا عن إهدار الوقت الذي هو بامتياز عمر الشعوب !!
* كما لو أن الحكومة وهي تدعو إلى (حوار وطني) مفتوح على كل القضايا، كما لو أنها تعترف بعد ربع قرن من الإنقاذ، وستة عقود من الاستقلال، بأن السودانيين لم يتواضعوا على شيء ذي بال في كل أمور دولتهم !!
* على أن القوم داخل قاعة الصداقة أخضعوا كل شيء للحوار، بما في ذلك عنوان السودانيين الأشهر الذي هو (السودان) !! فالسودان معروض للبيع كاسم مقابل اجتهادات وأمزجة تنزع للخلاف في كل شيء !!
* مساء الأمس توجهت كل التلفزيونات والإذاعات الوطنية إلى قاعة الصداقة، لنقل حدث يراهن عليه الكثيرون بأنه سيضع حدا لهذا الجدل السوداني، بحيث يشهر في هذا اليوم مؤتمر الحوار الوطني مقرراته الختامية وتوصياته، التي أنتجها خلال شهور بأكملها من الخلاف والتباين والتلاقي..
* فبرغم كل المثبطات دعونا نتفاءل ولو مرة واحدة، بأن مجموعات أخرى خارج القاعات ربما تنضم لمخرجات الحوار، حتى تتسع رقعة المؤيدين إلى تأسيس إجماع سوداني يكون له ما بعده.. والله ولي ذلك والقادر عليه.