محمد وردي.. حالة استحواذ غنائي فريدة.. الورد ينفح بالشذى
على مدى زُهاء خمسين عامًا ظلّ ينثر عطر طربه باللغتين العربية والنوبية. ميلاده ورحيله كانا بين يومي الثامن عشر والتاسع عشر، وما بين زغرودة الميلاد وعويل الرحيل نحاول أن نستعيد الكثير من تفاصيل تلك القامة المبدعة التي اصطحبت خلال مسيرتها الثّرة عديد الشعراء والموسيقيين، وذاع صيته بين الناس في وقت مبكر من عمره.. ذاق مرارة اليتم منذ نعومة أظفاره وبعد رحيل والده تبناه عمه، إلى أن توظف مُدرِّسًا، ثم بدأ صوته يشقّ عنان السماء تو ابتدراه تلحين الأناشيد المدرسية، لكنه من قبل كان سامِرًا للحي من خلال عزفه للطمبور في قرية صوادرة جنوبي حلفا.
سيرة باكرة
ظل الراحل محمد عثمان وردي وفيًا للمكان، يحمل بين خافقيه وخلجاته حب حلفا ولغتها وغنائها وطربها الجميل حتى أصبح بفضل حبه وانتمائه ذلك، فنان افريقيا الأول.
وحين سافر وردي إلى القاهرة بدعوة من عمه، أنفق اجازته في سرايا الملك فاروق، حيث يعمل عمه، الأمر الذي أسهم في تفتح آفاقه حثث تعرف عن قرب على التداخل الثقافي ما بين شمال الوادي وجنوبه، ولاحقًا، ما أن سطع نجمه وانتشرت أغنياته حتى أحبه المصريون بشغف كبير.
حالة استحواذ
جاء وردي إلى أم درمان ناثرا وناشرا للأغنية النوبية في العام 1957م، لكن تدريجيًا ومثل من سبقوه من أصحاب الأصوات الجميلة تحول إلى الغناء لأهل أم درمان وما حولها وللسودان عموما، فقد قدم وردي للغناء ما تضيق عنه الأسطر، وزع أكثر من (20) عملا وتغنى بمئات الأغنيات لمختلف الشعراء كما نال عددا من الجوائز ومنح الدكتوراة من جامعة الخرطوم وقبل كل هذا فهو فنان أفريقيا الأول.
فجر دواخل الوطنيين الثائرين عندما تغنى لثورتي الحرية مع الموسيقار محمد الأمين، واستحوذ على قلوب الأفارقة خصوصا الإثيوبيين عندما اعتلى مسرحهم وأحبته شعوب كثيرة عندما واجهه النظام بالنفي خارج البلاد، فأينما صدح بحنجرته خلق جمهورا محبا ومقدسا لفنه.
ما بين اللغتين
كان الراحل محمد عثمان وردي معروفا بمبادئه الصلبة خصوصا في المواقف السياسية، بكارزمته المتفردة فهو لم يشبه أحدا قط في لحنه ولا تطريبه السرمدي وحضوره الشامج كإهرامات الشمال التي جاء منها معانقا عنان سماء أم درمان ليطرب أهلها بقيثارة الفن الجميل، والمعروف أن وردي كان من أهل اللهجة النوبية إلا أنه كان أستاذا للغة العربية رغم انتمائه النوبي الذي مهر عطاءه وصقل غناءه بالعربية، فهو لم يكن مغامرا بملكاته كمن ظهروا معه في تلك الفترة بل كان واثقا من عطائه الجزيل وقدرته الكبيرة على العطاء، فكانت هناك موضوعية في اختيار رمزيته لأنه كان جامعا في فنون الأداء بين أغاني الطمبور وأغاني الطار والمدائح الصوفية، فكان ملما بناصية الكلمة وشوارد مفرداتها وحكمة أمثالها متجليا ذلك في أغنياته وعظيم تعامله مع الشعراء.
سياسة رشيدة
وعلى سبيل الذكر فقد زامل محمد وردي فنانين كانوا يكبرونه سنا مثل أحمد المصطفى وحسن عطيه في أغاني الحب والجمال وقد افترق طريقهم واتجه وردي نحو السياسة والأناشيد الوطنية والأغاني الحماسية فتغنى بنشيد الاستقلال وتغنى للفيتوري (أصبح الصبح) وللراحل محجوب شريف (وطنا البي إسمك كتبنا ورطنا) وقصيدة سامي المقام (ياشعبا لهبك ثوريتك)، كما غنى لفارسنا الحارسنا من قبل (مايو)، وفي فترة الإنقاذ رأى البعض ان أغاني الراحل تحمل في مفرداتها نوعا من التحريض على النظام فهاجر إلى أمريكا والقاهرة بعد أن اعتقل ومنع من الغناء بمسارح الخرطوم.
هجرات طالت
تلك الأيقونة والقيثارة التي انطلقت من أقصى الشمال عبر القطار إلى مدينة شندي ومنها إلى أم درمان، أنفق صاحبها جل عمره ما بين احتراف التدريس والغناء، إلا أن التهجير والهجرات الطويلة لم تنل منه قط، بل أضافت إليه نوعا من الانتماء للوطن وأهله وجمهوره لأنه نشأ متشبعا به ومات عاشقا لأرضه وترابه.
في العمق
تمتع وردي بملكات موسيقية جبارة، ويتجلى ذلك في أغنياته فكان فريدا في اختيار مفرداته وألحانه وأسلوب أدائه فنتجت عن ذلك قدرات تطريبة فذة خلدتها الذاكرة الجمعية لعشاق فنه ومريديه.
لا يزال أنين جرحه ينتح في ذاكرة الأغنية السودانية الوطنية والرومانسية والأغاني النوبية والأغاني الساخرة ما قبل التهجير.
الخرطوم: دُرِّية مُنير
اليوم التالي
لك الرحمة والمغفرة أيها الانسان الشامخ والعالم أجمع يفتقدك يا أيقونة النغم وقيثارة الفرح.