استفتاء دارفور وضرورة توحيد الإقليم
أخشى أن نضيع هذه اللحظة التاريخية والسانحة العظيمة التي تتاح لنا الآن من حيث لم نحتسب لتصحيح أحد أكبر الخطايا التي اقترفها نظام الإنقاذ في حق السودان وأدخله بها في نفق الأزمة الخانقة التي عانى منها ولا يزال بل والتي قد تلاحقه إلى الأبد ما لم نهتبل الفرصة المتاحة لنعيده إلى جادة الطريق.
أقول هذا متحدثا عن استفتاء دارفور الذي بدأ العد التنازلي لإجرائه ولا أرى أياً من القوى السياسية سوى قيادات الحزب الحاكم من ينشط لتسخيره لخدمة أجندته الضيقة التي لن تفعل غير أن تعمِّق الحفرة التي تردَّينا في قعرها جراء النظام الفيدرالي، وأعني حفرة التمزق والتشرذم والصراع القبلي الذي بلغ من الحدة ما لم يشهد السودان له مثيلاً في تاريخه الحديث.
كنتُ ولا أزال أتساءل عن فائدة واحدة حققها الحكم الفيدرالي القائم الآن، ولا أجد لكني أرى في المقابل ما أفرزه من تداعيات كارثية على وحدة البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي وضعف أدائها الاقتصادي.
بدلاً من أن يكون هدف نظام الإنقاذ الأكبر أن يلم شعث هذه البلاد ويقوّي من وحدتها ويراجع ما أحدثه النظام الفيدرالي من صراعات قبلية وتراجع في التنمية والأداء الاقتصادي، يصر للأسف الشديد، على (ركوب رأسه) مواصلاً عناده آخذاً بمعوله ليمزق الوحدة الهشة القائمة أصلاً على أساس رخو حديث التكوين أشرب ماء آسناً لم يفعل غير زيادة التفتُّت بين مكونات البلاد المتهالكة.
عندما زِيد عدد الولايات كنتُ مندهشاً بل مخلوعاً لا أفهم شيئاً، وأنا أرى ذلك الاصرار المَرضي(بفتح الميم) على زيادة وتيرة التفتيت بزيادة عدد ولايات دارفور من ثلاث إلى خمس في وقت كنت أتوقع أن يصار إلى خفضها توحيداً للإقليم بهدف تقليل حدة التوتر والصراع الذي مزق النسيج الاجتماعي وأحال دارفور إلى كيانات قِبلية متنافرة ومتطاحنة.
كان من أهم أهداف فكرة المدارس الثانوية القومية قديماً أن تجمع بين نخب المستقبل المؤهلة لقيادة البلاد على المستوى السياسي، وعلى مستوى الخدمة المدنية، ولم نكن ـ والله نعلم ونحن في جامعة الخرطوم من أي قبيلة ينتمي أي منا.
ماذا فعل إنشاء ولاية شرق دارفور مثلاً غير أن أشعل الصراع بين قبائلها التي افترض كل منها أن الولاية الجديدة خالصة لها ومحرمة على غيرها؟!
الأقاليم السودانية القديمة قبل (الخرمجة) التي أحدثها نظام الإنقاذ وضعها دهاقنة علم الإدارة الحديثة، وأعني بهم الإنجليز الذين أنشأوا كلية غردون بعد عامٍ واحد من غزوهم السودان، فلنكن صرحاء ونقترب من الحديث في الممنوع بالسؤال الذي لا يجرؤ الناس على طرحه.
سؤالي لا أقصد به غير الطرق على الفارق الحضاري بيننا وبينهم والذي يجعلنا نخبط كما العشواء في سياساتنا بعيداً عن منهج التخطيط الإستراتيجي الذي يحدد الأهداف ثم ينكب على وضع السياسات والوسائل، فقد تواضع العالم المتحضّر على ثوابت لا يحيد عنها بأن لا يُقام النظام الفيدرالي إلا بعد توافر مقومات اقتصادية معينة في الدولة التي تود أن تقبل عليه، كما أنه لا يجوز بأي حال أن يُقام في دولة لا تجمع بين مكوناتها هوية مشتركة وثوابت وطنية تشدّها إلى بعضها البعض، فكيف نفعل ما كان ينبغي أن نفعل ضده تماماً من إذابة للانتماءات الصغيرة التي تخصم من الانتماء الوطني الجامع؟! كيف نمزق السودان إلى ولايات قبلية ونحن نعاني من التوترات التي تسود فيها الانتماءات الأدنى والأصغر على الانتماءات الأعلى والأكبر؟ كيف ونحن نشجع الهلال والمريخ ولا نحفل بالفريق القومي وننتمي إلى قبائلنا ولا نهتم بالوطن الجامع؟!
إنها والله غفلة كبرى أن يروغ الناس ويسكتون عن هذا الأمر رغم أنه مصيبة كبرى هوت بها الإنقاذ على أم رأس الوطن يوم أقدمت على تمزيق السودان بإقامة النظام الفيدرالي الحالي الذي أضعف التنمية ووظّف جيوشاً جرّارة من المسؤولين والموظفين الذين انتشروا أفقياً على امتداد خريطة الوطن مع ضعف هيكلي في إدارة ذلك النظام المترهل أدى إلى فساد كبير أرهق كاهل المواطن المطلوب منه الصرف على هذه الجيوش الجرارة من العاملين على إقامة هذا النظام الفيدرالي.
تصحيح هذا الخلل ينبغي أن يبدأ الآن من دارفور الكبرى التي لو اختار سكانها وحدة الإقليم يكونون قد وضعوا حجر الأساس لاستعادة الأقاليم الستة القديمة.