من يملك سلطة تبديل هوية الوطن بعد تغيير جغرافيته؟؟
يأسى المرء كثيراً على وطن تنتاشه سهام بنيه ممن يسمون أنفسهم بالنخب والمثقفين بعد أن أطعمه حملة السلاح كل صنوف الطعام المُر وهم يصطرعون من أجل الإمساك بعنقه والقفز على ظهره حكاماً يقررون مصيره وفق نظرية الشيوعي “تروتسكي” القائلة (القوة تقرر مصير الأشياء).. وقد افتتن السودان بالقوة زمناً.. وفارقتهم حكمة الرحمة والمودة أزمان!!
آخر السهام المغروزة في جنبات الوطن تلك الدعوة التي خرجت من قاعة الصداقة وبعض الطامحين في ترديد اسمهم في وسائط الإعلام يجهرون بفسق وفاحش القول إن اسم السودان عار يتوجب الاغتسال منه وتبديله باسم يروق (للأمويين الجدد في حين لم يهاجر من الصحابة إلا “عبد الله ابن أبي السرح” وتقاصرت خطى “عمرو ابن العاص” من الوصول لأرض النوبة في الشمال رغم فتوحه لأرض النوبة في مصر).. ودعوة الأمويين الجدد سار بها في صحائف الخرطوم أحد المثقفين المهاجرين الذين اختاروا الخلاص الذاتي بالهجرة لأرض الإفرنج بدلاً عن البقاء في أرض الشقاء وإقليم العذاب، كما يقول.. وصدح الكاتب أنيق العبارة “عبد العزيز البطل” بتلك الدعوة لتجد دعواه هوى في نفس “الطيب مصطفى” الذي حمل (خنجره) لتسميم المناخ بالدعوة لتغيير اسم السودان ودوافعه في ذلك ما كتب في الإرث والتراث الإسلامي والعربي عن (السود والسواد)، و”الطيب مصطفى” خلع في مقالته التي نشرت بأخيرة صحيفته (الصحية) يوم الأحد فوق عنوان وليس تحت عنوان كما يزعم البعض خطأ (هل آن الأوان لتغيير اسم السودان؟).. “الطيب مصطفى” احتفى أيما احتفاء بمزاعم البطل التي تقول إن علم البلاد ونشيدها الوطني ليسا مقتنيات عزيزة أو مقدسة حتى نتمسك بها ونضعها في مقام المقدسات التي لا يحق ولا يجوز المساس بها.. ويتساءل الكاتبان بالتوافق والتطابق والتماهي في الفكرة التي تقول إن اسم السودان ليس ملائماً (لنا) يقصد هم لأن الاسم المعني يستبطن التوحش، حيث جعل “رفاعة رافع الطهطاوي” إمام الشيخين “عبد العزيز” و”الطيب” وهو يقول (وما السودان قط مقام مثلي ولا سلماي فيه ولا سعادي ولولا العرب من بيض لكانوا سواداً في سواد)، و”رفاعة رافع الطهطاوي” ليس مؤرخاً ولا مفكراً نقيم لما يقوله ويزعمه وزناً.. فهل “الطهطاوي” في مقام “أحمد بن حنبل” أو “مالك بن نبي” أو “فخر الدين التونسي”.. ويمضي الشيخ “الطيب مصطفى” وقبله “البطل” محتقراً اسم السودان: إن الاسم اختارته لنا شعوب أخرى لم تر فينا غير ملامح العبودية بمعايير ذلك الزمان!! ويواصل دفوعاته لتغيير اسم السودان الحالي ويقول: (العرب سموا المنطقة الواقعة على امتداد الشمال الأفريقي، بالأحرى المنطقة التي يقيم فيها بيض البشرة بأرض “البيضان”، بينما سمو البلاد التي يقطنها السود في أفريقيا بأرض “السودان”).. ويقسم “الطيب مصطفى” إنه لم يكن هناك سبب لتغيير اسم السودان غير أنه لم يأت باختيارنا إنما باختيار الآخرين (تعييراً) لنا وتبخيساً وانتقاصاً من شأننا ولكان ذلك كافياً لإعادة النظر فيه، سيما وأنه حكر على البقعة الجغرافية الحالية التي احتفظت به دون الآخرين مسمية نفسها به.
{ تلك أمانيك
لم أجد إساءة لوطن وشعب مثلما جرى على لسان الأمويين الجدد وهم يعدّون اللون الأسود رمزاً للدونية والأبيض رمزاً للسمو والرفعة والمقام العلي، وبعد أن بدل دعاة العنصرية البغيضة جغرافية الوطن وقسموه إلى وطنين وذبحوا على رفاته يوم الحزن الكبير الذبائح وأولموا الولائم فرحاً بانقسام شعب واحد إلى شعبين ووطن شامخ إلى وطنين، واليوم يرفعون رايات تبدل حتى اسم الوطن لارتباطه باللون الأسود فقط.. تلك لوثة جاهلية وضعها العالم من وراء ظهره وانتخبت الولايات المتحدة الأمريكية رئيسها الحالي “أوباما” لتقول للعالم إن عصر التمييز على أساس اللون قد انقضى.. وللوافدين بحثاً عن السعادة والرفاه في الدنيا الجديدة يملكون حق حكم بلادهم وليس “أوباما” وحده.. ومندوب الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن السفيرة “باروا” جاءت للولايات المتحدة طفلة مع والدها المهاجر البولندي عام 1992م، واليوم تمثل الولايات المتحدة دون (عقدة)، لكن ماذا نحن فاعلون إزاء ثقافة ترسخت في أذهان البعض من العرب والمستعربة في هذا الوطن الذي يئن تحت وطأة عار بنيه، وينزف قلبه دماً، وفي عصر الحداثة والعلم تعلو رايات الجهالات التي تجعل من اللون الأسود عاراً والبيضان مزية ترفع من شأن من لا يملك أن يختار لنفسه بين السواد والبياض.. لأن هؤلاء لم يقرأ أحدهم (تحفة النظار في غرائب الأمصار عن بلاد السودان)، لكنهم- أي رهط “الطيب مصطفى” و”عبد العزيز البطل”- ربما فتنتهم عنصرية “المسعودي” الذي قال (السودان أنتن الناس آباطاً وأعراقاً)، ولكن “المسعودي” ومن شايعه من العنصريين كانوا من الفاتحين لأرض السود وهم يطلقون الأوصاف والإسقاطات المهينة بحق شعوب أصيلة، وهو عين ما ذهب إليه “عبد الرحمن ابن خلدون” في مقدمته وهو يصف السودانيين بالخفة والطيش وكثرة الطرب.. هؤلاء هم أئمة العنصرية البغيضة، لكن الإمام “الجاحظ” هو من كتب فخر السودان على البيضان، وعدد المفكر “الجاحظ” نجباء السودان في التاريخ منهم “لقمان الحكيم” و”سعد بن جبير” و”مكحول الفقيه”، وقديماً كان أمثال “الطيب مصطفى” يحتقرون الإمام “الجاحظ”.. ومن بين الشعراء السود الذين تبدت حسرتهم على لون بشرتهم “ليوبولد سنغور”، لكن شاعراً ومفكراً آخر “وولي سوينكا” قال قولته الشهيرة (النمر ليس في حاجة للمباهاة بنمورته)، وهناك من البيض من تصدى لدعاوى الجاهلية المتحفية في التاريخ مثل “السيوطي” الذي كتب (رفع شأن الحبشان)، وسار على دربه كاتب آخر هو “محمد ابن عبد الباقي البخاري” الذي كتب الطراز المنقوش في محاسن الجيوش.
وهل قرأ سيدنا “الطيب مصطفى” ورهطه من الأمويين الجدد قول الشاعر “العباس ابن الأحنف” وهو يمدح فتاة سوداء البشرة ويقول:
أحب النساء السود من أجل تكتم
ومن أجلها أحببت ما كان أسودا
فجئني بمثل المسك أطيب نكهة
وجئني بمثل الليل أطيب مرقدا..
وإذا كان دعاة تبديل اسم السودان لأسباب (سخيفة) ومبررات واهية وتراكمات موغلة في البداوة، فإن النظرة الدونية للسود في جغرافية العرب والمنطقة لها أيضاً جذور دينية تعود لليهودية، فقد ظل اليهود لأكثر من أربعة قرون عبيداً للفراعنة يضعونهم في درجات دنيا في السلم الاجتماعي، لذلك أشاع اليهود أن اللون الأزرق رمز للشر المطلق، كما جعلوا من الحية ذلك الزاحف المتحضر كما يقول د. “منصور خالد” رمزاً للخبث والخطيئة والعدوان، وكانت الحية شارة للفراعين.
{ جدل السودانوية
منذ سنوات ما بعد الاستقلال نهضت مدارس أدبية فكرية خاضت في غمار الجدل والمثقافة ما بين متقابلتي الغابة والصحراء، والتبست على كثير من المثقفين دواعي الانتماء الجغرافي والانتماء الثقافي، وثمة خلط بين العروبة الثقافية للسودان والنظرة العرقية المتخلفة التي تتنكر لبقية مكونات الشخصية السودانية.. وإذا كان “الطيب مصطفى” ومن شايعه في تلك الرؤية يعدّ سواد السودانيين عاراً يهبط بهم درجات عن التراتبية المجتمعية، فهل العرب مثلاً عن الإفرنج هم بيض؟؟ وهل سكان أمريكا الجنوبية من البرازيل وكولومبيا وشيلي هم من البيض أم ملونين؟ وماذا تسمى القارة الآسيوية التي تحتضن الفرس وهم أكثر بياضاً من العرب بسبب المناخ والباكستانيين والهنود.. ورغم ذلك يطلق على القارة الآسيوية القارة الصفراء.. وعلى أفريقيا القارة السوداء، ويباهي الأفارقة بلونهم الأسود رغم أن هناك من يعدّ السواد رمزاً للحزن والكابوس والكوارث.. وآخر الكتابات التي أثارت جدلاً في الساحة رواية (الأسود لا يليق بك) للكاتبة الجزائرية ذائعة الصيت “أحلام مستغانمي”، وكثيراً ما يتنكر العرب لعروبة السودان بسبب اللون، بيد أن هذا لا يعني السودانيين العرب في شيء، حيث إن جامعة الدول العربية التي كانت حتى عهد قريب تمثل وعاءً سياسياً جامعاً لكل العرب لا تفترض في مكوناتها بالضرورة أن تتصف بالنقاء العرقي، وإنما جعلت الجامعة العربية من العرق أو سيادة الثقافة العربية معياراً للعضوية.. وفي أفريقيا يطلق الغانيون على منتخب بلادهم (النجوم السوداء) عزاً وفخراً بهذا اللون، و(90%) من أهل هذه البلاد (سمر البشرة).
ومن يحق له اليوم تغيير اسم السودان بعد أن (غيروا) من جغرافيته قبل سنوات ورقص “الطيب مصطفى” ورهطه على أنغام (الدلوكة) فرحاً بذهاب الجنوب؟ واليوم لا يدعو “الطيب مصطفى” لتغيير اسم السودان بسبب أن غالبية سكانه من المسلمين وقد رسخت تجربة الإسلام فيه وبسطت قيم العدل والحرية وجففت الدماء، وحري بهذه التجربة أن تجعل من السودان دولة إسلامية، وقد يهتدي البعض لإلصاق صفة الإسلامية بها مثلما فعل “القذافي” بدولة ليبيا حينما بحث عن العظمة فأطلق عليها الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى.. ولم يتبق إلا إلصاق صفة الديمقراطية بتلك الدولة الشمولية.. ومن قبل سمى “جعفر نميري” السودان بالجمهورية الديمقراطية، لكنه غيب الديمقراطية في جب عميق.. وإذا لم يطب للبعض اسم هذه البلاد وسواد شعبها فأبواب الهجرة مشرعة خاصة لمن كان جده من (القرشيين) الذين أسسوا لدولتهم في الجزيرة العربية بعد مقتل الخليفة “عمر ابن الخطاب” رضي الله عنه.. وذلك من خلال تغيب (الأوس والخزرج) من لجنة المحكمين التي اختارت “عثمان ابن عفان” رضي الله عنه، والأوس والخزرج منهم الأنصار ومنهم المهاجرين، وأبعدتهم نظرة القبيلة.. فماذا يريد لنا “الطيب مصطفى” أن نصير؟؟ ليته افترع اسماً يناسب البيضان من أهل هذه البلاد ولن نقول السودان حتى لا نثير غضب وحنق الذين يسوؤهم رؤية البلاد كما هي الآن ويريدون تبديلها.. ماذا نسمي بلادنا، أرض البيضان أم النيل؟ أم شيئاً آخر؟؟
نعم، بدلت بعض الدول أسماءها (هنغاريا) أصبحت (المجر)، و(فولتا العليا) أصبحت (بوركينا فاسو).. و(رودسيا الجنوبية)، (زمبابوي) اليوم.. و(ساحل العاج)، (كوت دفوار).. ولم تذهب أي من تلك الدول بما ذهب إليه “الطيب مصطفى” وبقية بني أمية ممن يعدّون سواد السودانيين نذر شؤم وبياض بعضهم مزية، ولهذا وذاك يجب تبديل اسم وطننا، الذي باسمه كتبنا ورطنا.
{ حكومة انتقالية أم قومية؟؟
انتهت لجان الحوار الوطني إلى اتفاق حول بعض التوصيات وخلافات حول بعضها، ومن أكثر القضايا التي اختلف حولها قادة الأحزاب المشاركة في الحوار والحركات المسلحة التي تناسلت من بعضها البعض، بعد صدور توصيات مؤتمر الحوار هل سيعلن الرئيس حكومة انتقالية؟؟ أم حكومة قومية؟؟ ثم ما المعني بالحكومة الانتقالية؟؟ وما هي سمات وخصائص ومهام الحكومة القومية؟؟ وهل الحكومة القائمة الآن ليست قومية؟؟ إذا كان الرئيس قد أعلن مراراً أن توصيات الحوار الوطني ملزمة لحكومته ويتم تنفيذها، لكن هل تنفيذ التوصيات يعني القبول بالحكومة الانتقالية التي هي في ذهن المعارضة حكومة بديلة للقائمة حالياً يتم تشكيلها من المعارضين (كمحاصصات)؟ أم تأتي من قبل تكنوقراط ويتم بذلك إلغاء مشروعية الانتخابات التي جرت العام الماضي وأفرزت واقعاً الآن في الساحة السياسية؟؟ والمعارضة التي تحمل السلاح والمقاطعة للحوار الوطني لن تعترف بأية حكومة لم تشارك هي في تشكيلها وتصبح جزءاً منها وترفع شعار إسقاط النظام أو تفكيكه مستخدمة آليات الحوار نفسها الذي دعت إليه الحكومة.. وتلك أمنيات بعيدة وغير قابلة للتحقق لأنها تعني ببساطة أن (يستسلم) المؤتمر الوطني لخصومه ويسلمهم السلطة (حزمة في خيط)، ويذهب لكرسي المعاش الاختياري ويراقب ما يحدث بعد ذلك من تطورات.. والأحزاب العديدة والحركات المسلحة التي يفوق عددها المائتي حركة مسلحة وحزب تتوق جميعهاً للسلطة (ثمناً) لمشاركتها في الحوار الوطني، وبعضها أعلن موافقته دخول قاعة الصداقة طمعاً في كرسي الحكم.. وهذا من حق هذه القوى أن تجد لنفسها موطئ قدم في السلطة القادمة وتمتع نفسها بحق تعتقد أنه مشروع ومكتسب، لكن هل تتسع مقاعد السلطة في بلدٍ يعاني ضيقاً في ذات اليد وأزمة اقتصادية خانقة لتلبي طموحات كل هؤلاء؟؟ وكيف لمئات الحركات الجلوس في كرسي السلطة، إلا إذا اكتفى بعض من هؤلاء بمناصب وزراء ولائيين ومعتمدين في الولايات بدلاً عن مجلس الوزراء الاتحادي الذي يفيض الآن بعدد من الأحزاب والقوى المشاركة حتى بات من العسير على المواطنين التمييز بين منسوبي المؤتمر الوطني وحزب الأمة الوطني والاتحادي الديمقراطي الأصل والمسجل.. لكن تبدو فكرة تشكيل حكومة موسعة بقاعدة عريضة هي الخيار الأكثر واقعية في المرحلة ما بعد الحوار الوطني، وهناك اتفاق على أن يرأس “البشير” أية حكومة يتم تشكيلها بعد الحوار لمدة أربع سنوات هي ما تبقى من سنوات المشروعية التي وصل عليها العام الماضي.وخلال السنوات الأربع يمكن أن يعدل كثير من القوانين التي طالب بها قادة الأحزاب المتحاورة لتهيئة المناخ للانتخابات القادمة.
المجهر السياسي