نحن البيضان وكذلك مايكل جاكسون
بالنسبة لي أجدني متماهياً ومتفقاً مع أقوال (جوليا كريستيفا) فيما يلي موضوع الهُوِّية، إذ تصفها بأنها، ما هي إلا وعي متحرك وحيوي بالصيرورة والمغايرة والاختلاف، وهي إدراك نقدي متفتح على الآخر. وبالتالي فإن الهوية ليست معطىً ثابتًا ولا هي بملجأ، بل بالعكس، إنها صيرورة وبناء متواصل ومتجدد للذات، وهي تبحث عن اندماج معقلن وذي (مردودية) يقدر أهمية الآخر ويقبل به شريكًا متضامنًا في الثقافة والمشترك الإنساني، خاصة وأن كثيرين منا في هذا (السودان) “يسكنهم الغريب على نحو غريب”.
بطبيعة الحال، فإن هذه البلاد اسمها (السودان)، وهو اسم لا يحمل مكاره وخزيًا ولا يشي بعبودية واسترقاق كما تروج بعض الكتابات هذه الأيام، وإنما هو توصيف لألوان قاطني هذه البقاع – وهم (سود/ وسودان)، جمع أسود، وإن كنت غير ميّال لتوصيف الناس على أساس ألوان بشرتهم، لكن هذا لا يمنعني من أن أقول إنه توصيف صحيح، حيث لا يمكن أن نكون نحن سكان هذه الجغرافيا من العالم إلا (سودان)، وبالتالي تصبح ألواننا جزءًا أصيلًا من هويتنا، وعلينا أن نكون متصالحين مع ذواتنا، قبل الانجراف والانجرار والانسياق خلف خطابات الهوية التي أنتجها الفكر العربي الإسلامي، تلك المبنية على الطابع العفوي والعاطفي، كونها تنبني على ثنائية الأنا والآخر والرفض أو القبول المطلقين.
ويكتب الكاتبون، عن اسم السودان هذه الأيام فيقولون عجباً عُجاب، فالأمر وصل عند بعضهم إلى حد غريب عجيب، قالوا: “نحن لم نختر اسم السودان” بل أطلقه علينا الآخرون (العرب)، تبخيسًا وانتقاصًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهؤلاء لا يعرفون أن (نيجيريا والنيجر وإثيوبيا) على سبيل المثال تشير أيضاً إلى (سود)، وأكثر من ذلك فإن معنى (أفريقيا) ذاتها تعني (السود)، وهي مشتقة من عفر (عفريقيا) – أفر (أفريقيا)، وهم قوم يسكنون القرن الأفريقي على باب المندب وتعني عفر بالعربية (وجه الأرض – لون التراب – التراب الأسود).
لكن، فلنضع كل ذلك جانبًا، ونسأل: هل يقلقنا لون جلودنا (السوداء) إلى هذا الحد الذي يجعلنا نسيئ إليها وننتقض من قدرها، و(نمسحها بكريمات التبييض)، لأنها – كما كتب الطيب مصطفى أمس “صفة السواد تستبطن انتقاصًا في كل لغات العالم”، لكن مصطفى نفسه، كان أشار إلى أن العرب هم أطلقوا علينا (السودان)، لكن يبقى السؤال شاخصًا: هل نحن بالفعل كذلك؟ أم أنهم كذبوا وادعوا علينا بالباطل؟
والحال هذه، فكأني ببعض من يطالبون الآن، بتغيير اسم (السودان) مصابين بحالة مرضية يمكننا أن نسميها (قلق الهوية)، وهو قلق التموقع إزاء الذات وإزاء الآخرين وإزاء ما نعتقد أن الآخرين يعتقدونه بخصوصنا، ما أفرز حالة من الذهول والتشظي الهوياتي الأمر الذي أصاب ذوات بعضنا ممن يعتقدون أنهم (بيضان) بجروح عميقة، على ذلك النحو الذي يمثله (الطيب مصطفى)، على سبيل المثال لا الحصر.
في الواقع، ولأنه لا يمكن أن لا نكون (سودًا) لأننا لا نريد ذلك فقط، بينما نحن كذلك بالفعل، فإننا نهضنا من قبل كثيرًا معترضين على خطاب الهوية العروبي المطروح في الساحة، وقلنا إنه مفتعل وغير واقعي، لجهة أنه يعتمد على مقولات هشة مثل (من تحدث العربية فهو عربي) – بالمناسبة العرب ليسوا من البيضان – بل ألوانهم أقرب إلى السودان، وبالمناسبة أيضًا، نحن (سود)، ولا أحد غير بعض منا يقول غير ذلك.
إلا أن ما حدث في هذه البلاد، ولا يزال من تضخيم لخطاب الهُوِّية، يظل أمرًا مرتبطا بتلك الهزات الحضارية العميقة، التي أعقبت تحول المجتمعات المحلية إلى الإسلام، وبالتالي إلى اللغة العربية – كلغة دين – والتخلي عن لغاتها الأم في سبيلها، ومن ثم إنكارها (اللغات) (مرة واحدة)، دون أن ينبه أحدًا إلى أن اللغة وحدها لا تكفي للحصول على هوية (عرقية) جديدة، تجعل من جماعة إثنية ما (انجلو ساسكونية) مثلاً لمجرد أنها تخلت عن لغتها الأم لصالح (الإنجليزية)، وإلا لأصبح أهل غرب أفريقيا كلهم (إنجليز وفرنسيين)، كما أن انبثاق الهوية الإثنية والثقافية لا يتم إلا عندما يتعلق الأمر بوضعية أزمة مرتبطة بهيمنة ما، أو في الوقت الذي تصبح فيه بعض الخصائص الإثنية معرضة للانقراض.
عمومًا، حتى لو تغير اسم السودان إلى (البيضان)، فإننا سنظل في نظر كل العالم (سودان)، ليست ألواننا فحسب بل حتى ملامحنا، عيوننا، أنوفنا، (قوالب) أجسادنا، كلها تشير إلى هويتنا، فحتى النساء السودانيات اللاتي حولن ألوانهن إلى بيضاء بنزع بشراتهن السوداء بواسطة كريمات التبييض لم يصبحن (بيضاوات)، وكذلك مايكل جاكسون.
أصبت و الله كبد الحقيقة .
كيف يكون لو ما كنت سوداني , كفى تشبثا” بالماضي و لننظر الى الامام لما فيه مصلحة ابنائنا ..