جعفر عباس

نفعكم الله بعلمي يا بريطان (5)

في بريطانيا تضطر الحكومة إلى إلغاء مشروع تشييد طريق سريع يربط بين مدينتين؛ لأنّ جماعات المحافظة على البيئة تعترض عليه، وما كان ذلك ليحدث لولا تلك الديمقراطية التي تجعل الحفاة العراة يتطاولون على «السادة»، والحل في مثل هذه المواقف، هو اعتقال «البيئة» نفسها ثم الإلقاء بها في حفرة الأساس وردمها بالخرسانة.
ويا حبذا لو بادرت الحكومة البريطانية بتأميم وسائل الإعلام؛ كي لا يتسلل إليها أعداء الشعب الذين يسعون إلى النيل من مقدرات الأمة البريطانية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإلغاء الديمقراطية وإنشاء «جامعة الدول الساكسونية» لتضم بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
ولابد أن أسجل صوت شكر لبريطانيا باسم أهلي في السودان. فرغم أن السودان ظل جزءا من الإمبراطورية البريطانية لأكثر من نصف قرن إلا أن الإدارة البريطانية أحجمت عن إدخال لعبتي الرغبي والكريكت إلى السودان، فلعبة الرغبي هي في واقع الأمر «حرب أهلية»، ونحن والحمد لله لدينا اكتفاء ذاتي في هذا المجال. أما لعبة الكريكت فأنها «لعب عيال»: رجل يندفع حاملاً كرة ويلقي بها بين رجلي رجل آخر يتولى إبعادها عنه بالمضرب كصبي يهش نحلة، فيتلقفها ثالث يجري بها كالمجنون، ولا أفهم كيف أن أمة اكتشفت البنسلين واخترعت القطار والتلفزيون، تصفق للبلطجة المسماة «رغبي»، والعبط المسمى «كريكت».
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وبما أنني تطوعت لإسداء النصح لبريطانيا حكومة وشعباً، حول مختلف الشؤون، وبما أنني أوضحت في مقالي الأخير هنا عيوب الديمقراطية، وكيف أنها لا تأتي إلا بالبلبلة والفتن، فلا بدَّ أن أقدم اقتراحا بديلاً. ويتمثل في حل الأحزاب السياسية وتفويض صلاحياتها إلى أندية كرة القدم كما هو الحال في العالم العربي. فالدارس لتاريخ الوطن العربي يعرف مثلاً أن ناديي الأهلي والزمالك في مصر، والهلال والمريخ في السودان، وكذا وكذا في الجزائر وتونس ولبنان، أن كلاً من هذه الأندية يحظى بشعبية لا يحلم بها أي حزب سياسي، بل إن إدارات بعض تلك الأندية أقوى من «الحكومة»، ويفسر هذا اهتمام الحكومات العربية بكرة القدم وإغداقها الهبات على أندية كرة القدم، وذلك بعد أن أثبتت جدواها السياسية والاجتماعية.
بعض الناس في العالم العربي ينتحر؛ لأنّ فريقه خسر مباراة، ولكن لم يحدث أن انتحر مواطن عربي لأنّ حزبه خسر انتخابات أو خرج من «الدوري الحكومي». الولاءات في كرة القدم ثابتة، أما في الصعيد الحزبي فإنّ أعضاء الحزب الخاسر يبادرون إلى الانضمام إلى الحزب الفائز تفادياً للممارسات «الديمقراطية». وربما يقول قائل إنه لا توجد لدينا انتحارات ذات طابع سياسي؛ لأنّ الجميع يعرفون نتائج «الانتخابات» سلفاً، وبالتالي فلا مفاجآت ولا صدمات، والرد على هذا أن نتائج مباريات كرة القدم أيضاً قد تكون معروفة سلفاً ومع ذلك ينتحر مشجعو الفريق الخاسر.
الشاهد فيما أسلفت أن أندية كرة القدم تمثل أفضل القنوات لضمان انضواء الشعب تحت لواء مؤسسات تتسم بالاستمرارية، فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يستطيع أن «يعمَّر» في منصبه إذا ترشح عن نادي مانشستر يونايتد عوضاً عن حزب المحافظين، ولضمان المنصب يمكنه أن يحول حزب العمال المعارض إلى نادي ليفربول –مثلاً– وبعد أن تتم هذه النقلة التاريخية يمكن إسقاط كلمة «الديمقراطية» البغيضة من القاموس السياسي البريطاني، والاستعاضة عنها بكلمة «التعددية» وهي كلمة جوفاء وفارغة لا تعني شيئاً محدداً، فهناك «تعدد» في أشكال الناس وأطوالهم وألوانهم ومساكنهم وأديانهم، وبالتالي فبإمكان أي شخص أو حكومة أن يتحدث عن إيمانه بـ «التعددية»، من دون أن يلزمه مثل ذلك الحديث الإتيان بدليل ملموس، هل تريد دليلاً على وجود التعددية (مثلاً) في جمهوريات بعرستان؟ اذهب إلى السوق المركزي وستجد «تعدداً» في البضائع المضروبة؛ فتدرك أن تايوان واليونان «سيم سيم».

jafabbas19@gmail.com