اسامة حمزة : البركل المهرجان .. وحاويات السرطان ( أغنيات.. فوق جراح البلد) (2- 3)
أنا من تلك الأرض التي أنجبت “حميد” و”إسماعيل حسن” و”حسن الدابي” و”النعام آدم” و”الطيب صالح”.. ومن هذا التراب الذي تغنى له كل مبدعي الوطن حباً وتقديراً ومحبة.. نحبه انتماء وعنواناً ونحسه ألماً وجرحاً ونزفاً.
قد نختلف في رؤيتنا للأشياء، لكننا نتفق في هم البلد ومشاكلها ومعاناتها.. ودعوني أكتب:
من حق لجنة مهرجان البركل أن تفرح بما تعتقد أنه نجاح، معتمدة على حجم الجمهور الذي شاهدناه عبر الإعلام، وهو قد يساوي أو لا يساوي جمهور إحدى حفلات “ألنصري”.. لكنها (أي اللجنة) لا تعلم أن أهلي يخرجون لصوت (صايح) يحمل نبأ الموت.. ويخرجون لقافلة صحية تأتي من المدينة.. ويخرجون فرحة بقدر طول الشريان الذي يمتد بعداً بينهم وأحلام المدن والمدنية والقادم من أرض (الخرتوم) فهم ما زالوا بسطاء برغم كل شيء. كانوا يتوقعون مثلي أن يأتي المهرجان والبلد تعيش تنمية ورخاء ووفرة في العيش والخدمات.
من حقنا أن نكشف مواضع الفشل بحسب تقديرنا.. ونضع المبضع على جرح الإهمال، ومن حق فئة ثالثة أن تقف موقف المتفرج وهذا من منطلق حرية الرأي والرأي الآخر.. فمهرجان البركل بعد أن أصبح جزءاً من مطايا السياسة بات لا يختلف في تصريحات لجانه عن تصريحات كل الساسة التي تعتمد أسلوب الإثارة والتخدير و(غتغتت الحاجات).
وها هي أيام مهرجان البركل تمضي إلى نهاياتها في نسخته الثانية ولا حديث فيها عن الموت الذي يشغل الناس.. ووالي الشمالية يصرح بأن ما قيل عن الحاويات المسرطنة ليس صحيحاً أو هكذا يعتقد، ولا نعتقد. ولا أدري من أين أتى بهذا الاعتقاد. لكن للأسف هذا ليس أسوأ ما قاله والينا الهمام.. لا، بل أردف قائلاً إن الوفد الذي زار المنطقة للدراسة والتأكد ليس وفداً رسمياً.
وأنا حقيقة خجلٌ لمثل هذا التصريح.. من الذي قال لك يا سعادة الوالي إن الوفد ليس رسمياً؟ ألم يتحرك بعلم وأمر نيابة المستهلك؟؟ أليست هذه نيابة مختصة وتتبع لجهة عدلية رسمية ووفق بلاغ فتح في دفاتر وزارة الداخلية؟؟ ألم يقابل هذا الوفد معتمد مروي ورحب به؟ إذ كيف يفتح المعتمد أبواب المحلية لوفد غير رسمي ويستقبله؟؟ أشك في أنك لا تدري حجم الكارثة وحجم الأمانة وحجم الحساب.
ولنفرض أن الوفد ليس رسمياً.. لنفرض أن أحدهم يحمل من العلم ما يمكّنه من اكتشاف الحقيقة.. هل فقط لأنه لم يكلف رسمياً لا يمكنه دخول المنطقة وكشف الحقيقة؟؟ يبدو أن الأمر كله هو الخوف فقط من كشف الحقيقة.
سعادة الوالي..
إحقاق الحق لا يحتاج إلى رسميات ولا أوراق مختومة، لكنه يحتاج إلى رجل شجاع وضميرٍ يقظ، رجل لا يخاف على منصبه قدر خوفه من الخالق سبحانه وتعالى، يحمل هم أهله وعشيرته ويخاف الله فيهم ويخشى عليهم من ما يخشى منه على أهل بيته. وتصريحك هذا جاء غريباً ومدهشاً.. وليتك بقيت صامتاً قبل أن تنطق بما قلت.. فما قيل عن حاويات النفايات مخيف وقاتل.. فأين الأمانة التي أقسمت بها ذات يوم؟!
ثم إنني أتساءل: ( وين مرشح دائرتنا من كل هذا؟).. رأيته يجلس في مقدمة الصفوف في افتتاح المهرجان.. فتذكرت “عمر شلبي” والأبواب والجوالات تغلق في وجهه عندما كان المهرجان طفلاً بين أوراقه وأحلامه.. وعندما تبخرت الوعود والأمنيات قبل أن يصبح المهرجان هيئة لها ميزانية وفواتير وسيارات.
نعود إلي قصة المهرجان.. ومواصلة لما سبق تعالوا نتساءل ماذا حقق المهرجان من إيجابيات مما حملها اسمه وعنوانه؟؟
{ التسوق
معنى كلمة التسوق حسبما فهمت من سياق فكرة المهرجان هي تسويق المنتجات التي تنتجها الولاية.. وقد تتاح الفرصة والأماكن لمنتجات من أماكن وولايات وجهات أخرى.
الولاية الشمالية عرفت منذ قديم الزمان بإنتاج أجود وأحسن وأكثر التمور على نطاق السودان.. ومنذ قيام السد وتغير المناخ بدأ إنتاج التمور في الانخفاض والتشوه.. انخفاض الكمية وتشوه النوعية.. وقبل عامين قام السيد معتمد الدبة “عصام عبد الرحمن” بإنشاء بورصة التمور بمنطقة الدبة.. لكن لمصالح ناس أو لأسباب لا نعلمها ماتت فكرة البورصة في مهدها وماتت التمور والشتول.. والآن – جوال التمر لا يزيد سعره عن المائة وسبعين جنيهاً (ومافي زول دايرو).. وها هو يرقد في “الحيشان” ينظر إليه أهلي بكل حسرة.
وفي تقديري أن هذا الكساد له عدة أسباب.. أولها انفصال الجنوب الذي كان يستهلك كميات كبيرة، وحرب دارفور.. ثم باب الاستيراد الذي فتح على مصراعيه لكل من هبّ ودبّ.
(أها ده أنا الما خبير ومعتمد ولا عندي سلطة ولا وزير صناعة وعارف أساس المشكلة).. الحل أولاً إنشاء مصانع للتعليب.. وتصدير الجيد من التمور.. وتأمين توصيل المنتج إلى غرب السودان في ظروف آمنة من النهب المسلح.. ثم إيقاف الاستيراد..
ولكن، لن يتم إنشاء المصانع، ولن يؤمن توصيل المنتج للغرب، ولن يتم إيقاف الاستيراد لأنه (يخرب بيوت ناس كتااار).
الولاية اشتهرت بإنتاج القمح.. وهو يعدّ الغذاء والمحصول الرئيسي للولاية وكل السودان.. وطبعاً إذا كان بالإمكان الاستفادة من المهرجان في التسويق كان لابد من التسويق الإعلاني قبل المهرجان حتى تستطيع الشركات العالمية التسويق والجهات التي لها علاقة بالإرشاد الزراعي، لكن أين “أسامة داوود” من هذا كله..؟ سؤال لا إجابة عنه على الإطلاق فـ”أسامة” هو الذي يستورد الدقيق والقمح وعربات النفايات وآليات المشاريع، وهو الذي يدير ملاعب الغولف ذات الأفدنة غير المحسوبة و.. و..
المنتج الثالث هو الفول المصري الذي اشتهرت به منطقة السليم وهي المنطقة التي تنتج أنواعاً جيدة وعالمية.. لكن رويداً رويداً اكتشف المزارع أن قيمة الجبايات على شريان الشمال لا تغطي منصرفات الزراعة، ففضل مثل غيره استيراد الفول وماتت الزراعة.
لا يبقى لكلمة التسوق معنى آخر غير أنها تعني فتح مجالات لـ(ستات الشاي) وإيجار أكشاك لهن بقيمة (2000) جنيه لأيام المهرجان ليباع كوب الشاي بقيمة خمسة جنيهات.. وإيجار أكشاك الأطعمة بقيمة ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه.. ولا أدري ما هي الفائدة الذي يجنيها المستأجرون في ظل هذه الأسعار الخرافية.. وهل نصدق أن قيمة الدخول لحضور حفل “طيور الجنة” كان بقيمة عشرين جنيهاً؟ وقد قيل (والعهدة على الراوي) إن اللجنة دفعت لفرقة “طيور الجنة” مبلغ أربعمائة ألف (مليون) للحفل.. (بعزقة ما بعدها..) وما فائدة أن يكون المهرجان للتسوق في ولاية لا تجد ما تسوقه؟؟
{ ثانياً- بند الثقافة
وهي العنصر الثالث في عنوان المهرجان، لكن ما هي ثقافة المنطقة التي عكسها المهرجان؟ وقبل ذلك دعوني اسأل.. هل المقصود هو ثقافة المنطقة الشمالية أم أنها ثقافة السودان عامة؟؟
إن كان المقصود هو ثقافة المنطقة فإنها تمتد بطول المنحنى من حدود المناصير.. وثقافتها بالتأكيد هي ليست الأغاني والشعر فقط.. فهذه المنطقة جاءت منها ثقافات مختلفة، هذه المنطقة هي رائدة الحياة الدينية والصوفية والعلمية في السودان؛ حيث أُسِّست بها أوائل خلاوي تعليم القرآن الكريم.. ولم يأت المهرجان بسيرتها
لقد أنجبت منطقة الشايقيّة (منحنى النيل) رموز الفن والشعر والأدب في السودان.. وفى مجال غناء الحقيبة أسماء رسمت خارطة الطريق للثقافة السودانية وجلهم جاءوا من تلك المنطقة.. وجلهم تجاوزهم مهرجان الثقافة هذا.
وفي مجال الغناء الحديث للشايقية راية عالية وصوت جهور وقدّموا للسودان مبدعين شكلوا وجدان الشعب.. ومن هنا خرج “الطيب صالح”، وخرجت الأقلام والأصوات التي اختزلتها لجنة المهرجان في فنانين وشعراء محدودين ومكررين.
برنامج المهرجان هذا العام جاء باهتاً بعكس عامه الماضي، ذلك أنه اعتمد على أشخاص (أغلبهم) لا علاقة لهم بثقافة المنطقة..
وحتى رئيس اللجنة وأمينها العام جاءا من قلب السياسة والمنابر ولم نعرف لهما قرباً من أوساط الفن والثقافة وإن برعا في إدارة الوزارات والأرقام والحسابات، فقد كان ذلك إلى حين وإلى حد..
وإن تحدثنا عن أغنية الطنبور فـ(يبدو) أن رئيس اللجنة الثقافية لا علاقة له البتة بهذا الوسط ولا علم له بتفاصيل قبيلة الطنبور ولا يعرف منها أسماء غير (بعض) الذين تكرروا عامين متتاليين على مسرح المهرجان.. إذ كيف تغيب من مهرجان البركل أسماء كبيرة أرست قواعد أغنية الطنبور وأسهمت في الخروج بها من إطار المحلية إلى القومية؟ فما هي معايير اختيار الفنانين والشعراء؟؟
{ ختاماً
لا أرى فائدة قد حققها المهرجان.. وما صرف من مليارات الجنيهات كان الأولى صرفه فيما يفيد من مستشفيات وخدمات تعود على مواطن يعاني المسافات لأجل الدواء.. ويعاني الإهمال، ويحتاج الماء والكهرباء والتعليم.. فـ(مراح) السيارات التي خصصت لـ(ناس المهرجان) كان الأولى بقيمتها البلد والناس والخدمات.. فإن كانت القروش تطبع في المنطقة الصناعية فهي جزء من ميزانية الدولة ولها أوجه صرف أولى من المهرجان.. فالشمالية تحتاج إلى التنمية.. والمهرجان لا يحسب كتنمية ولا كبنية تحتية ولا.. ولا.
ومن آثار المهرجان على البلد (كلام كتييير) يقال (همساً) والليل هناك (يغتي الجبال).
الصور تملأ الوسائط لمدارس في قلب أقرب المدن للمهرجان وهي تعاني الإهمال وهي مدارس تنقاسي والقرير والزومة.. وعلى مواقع التواصل أيضاً خطاب من مجموعة من مبدعي الشمال من منطقة البديرية وهم يخاطبون الجهات الرسمية متظلمين من إقصائهم من مهرجان البركل وهم أعمدة الغناء والشعر في شمال الأغنيات.. ويبدو أن اللجنة لم تسمع بهم إلا بعد خطابهم هذا، فقد تم إلحاق بعضهم مؤخراً.. وبعد أن وقعت الفتنة.. وقد قيل (والعهدة على الراوي) إن الفنان “جعفر السقيد” تمت إضافته مؤخراً بطلب من جهات عليا.. وأحد أصدقائي الصحفيين المعروفين قد صرح عبر أحد منابر المهرجان إن “السقيد” قد سقط اسمه سهواً.. غايتو!!
أكرر ما قلته في مقالات سابقة إنني من مؤيدي المهرجان، لكنني انتقد موعد قيامه.
واكرر ما قلته أيضاً إن الولاية في حاجة للنهوض بثقافتها وإرثها وكُتّابها ومثقفيها وشعرائها ومطربيها ولكن ليس الآن..
نحن الآن نحتاج إلى والٍ يقف مع أهلي ويبحث معم أهم قضاياهم ويبحث معهم موضوع النفايات ويثبت لهم أنها مجرد إشاعة، ونحتاج إلى معتمد يحترم رعيته ويحترم قضايا منطقته ويقف مع من جاء يخدمها وليس العكس..
نحتاج إلى نائب دائرة يقوم مقام ابن البلد الأمين القوي على هموم البلد والحريص على مصالح من أتوا به وساندوه يوم أن كان يبحث عن صوت انتخابي ليعتلي به كرسي البرلمان.. فالذين جاءوا به قادرون على أن يسحبوا ثقتهم عنه أو يختاروا عن أنفسهم من يستحق أن يثقوا به.