سينو غرافيا ..محمود عبد العزيز
كان الوقت ظهيرة من منتصف التسعينيات ؛ في فناء مبان سنوغرافيا ي التلفزيون القومي حينما خرج هو من داخل احد الاستديوهات بينما كنت اتسكع في فراغ المكان ؛ وقف وحده تلفت ثم اتخذ من احد الظلال الفاترة مكانا ارتدي بدلة حمراء امتدت باناقة علي جسد نحيل ينتهي بعنق مديد ؛ وقف يفرك يديه يرد التحايا بخجل وقور علي بعض العابرين امامه ؛ يرفع يده ثم يربت بها علي حافة صدره جهة القلب ؛ تقدمت نحو صافحته فاحسست به يرتبك لكنه استقبلني وكأنه يعرفني ؛ لحظات وانساب الانس بيننا ؛ للفتي سحر مهيب ؛ يزيل منك محاذبر الالفة بهدوء غير مرهق ؛ كان هادئ الصوت لا تسمعه بالكاد وان رسخ في قاع ذاكرتك .صوت جلي الابعاد نقي ؛ انصرفت منه بعدها وشئ في ذاك الشخص لا اعرف معناه يشدني ؛ انتظر هو للحظات ثم مضي بدوره ؛ بغير صخب او تيه علي الارض مضي مثل الطيف ومضت السنوات ثم قبل ثلاث اعوام ؛ كان الوقت ظهرا كذلك ؛ دلفت للمطعم اللبناني باديس ابابا ؛ حضرت لتناول وجبة ؛ كان هو هناك يجلس ؛ كنت اعرف انه مريض ؛ لكني لم المح عليه اثار علة ؛ بدا وكأن طقس المدينة الجميل قد غذي بشرته وروحه بعافية وثابة ؛ كان يجلس مرتديا بالطو اسود اللون ؛ ربط شعر راسه وعقد انسداله علي مرتقي عنقه من الخلف ؛ كان برفقة نفر من اصدقائه تناثرت ضحكاتهم في المكان ؛ جلس هو ساكنا يمسح المكان بنظرات خجولة ؛ يبتسم مرة ملاحقا تعليق منهم ويرد احيانا باختصار ؛ التقيت التحية واقتربت منه ؛ طالبني بالجلوس وهو يقوم مفسحا مقعدا رافضا بلطف عون النادل ؛ انضممت للمجلس لم اكثر الحديث لاحظت للعجب ان (محمود) له هالة سكبنة غريبة ؛ ينظر سارحا يحلي وجه راكز الوسامة فقط بابتسام يقتصد فيه بشكل لافت ؛ انفض مجلسنا وظللت لثلاث ايام التقيه ؛ وشهد الله كان في كل الوقت وقورا مهذبا ؛ ان حضرنا لمكان مكتظ ينتابه القلق ؛ يجول متحركا مع امالة راس اثناء سيره يمنه ويسرة ؛ تشده الموسيقي ؛ ينصت بقلبه يغوص في اركان الاستماع ؛ بعدها بيومين طلب هو ان يغني للجالية السودانية باديس ابابا ؛ اكتظ النادي السوداني حتي صرخت جنباته ؛ خرجوا من بين الاحياء واطراف المرتفعات ؛ حرت اين يقيم هؤلاء ! تحول المكان لشئ اقرب ما يكون لحارة سودانية بامدرمان ؛ صعد القي تحية نشطة ؛ غني غناء تبدت فيه العافية والاشواق وكثير من عروض النداوة ؛ كلما مضي الوقت تعتق اندماجه باحاسيس الاجادة ؛ جمل الاثيوبيون المكان بالتفاعل ؛ رزم الايقاعات الحارة والصوت المبين اطلق سراحات تفاعلهم فان رايتهم لظننت انه يغني لهم وحدهم ؛ حفل عمره كان يومذاك ومثل كثير يهدر فقد اهمل المنظمون حفظ التسجيل او مارس بعضهم انانية الاخفاء فلم يبث ! تجلي محمود في تلكم الايام ؛ لم اكن اعلم اني لن اراه ؛ توادعنا ..بعد ان صرنا اصدقاء نصحته ان هذا البلد انعش روحك فاطل الاقامة لكنه لسبب ما تعجل العودة حيث قضي اشهر قليلة فصار نعيا
كان الوقت صباحا ؛ توجهت علي تخوم التاسعة صباحا لاكمال معاملة بوسط الخرطوم ؛ جلست اقطع الوقت في انتظار (نده) اسمي لكي اخضع لعملية تقطيب لجيبي بدفع رسم ما وضريبة اجراء رسمي ؛ المكان في صالته البئيسة شاشة تلفاز صلبها احدهم علي قناة النيل الازرق ؛ برنامج صباحي لم يكن احد ليأبه له لولا انه كان عن تتبع حالة محمود عبد العزيز الصحية ؛ كان حينها بالاردن يصارع وينازع ؛ الضيف كان الناقد الفني الزبير سعيد ؛ صحفي حقيقي وناقد ومحدث جيد ؛ اثناء تتبعه بالشرح لمسيرة (الحوت) الفنية عبرت البرمجة اشارة عابرة بان امر الله قد نفذ كان البث مباشرا ؛ يضطرب المذيع ؛ ينهار سد الجلد والتماسك عن الضيف فينهار باكيا مثل مفجوع ؛ ينتقل الاثر للصالة ؛ تهدأ اصوات ملاججة هنا وضجر هناك ؛ يلم شرطي كهل خطواته الفاترة ؛ يجلس مطرقا غافر لتلاسن كان يتوسع بينه ومواطن ؛ حول فعل او معاملة ؛ يرين صمت حزين ؛ يتحلق الناس وقوفا ؛ ينفجر بعض الشباب بكاء ؛ انضم لقافلة الحزن لكن بسكون .امسح دمعي بطرف (الفايل) ؛ تصيح امراة مسنة (وووب علي) ينادي احدهم بالحاح باسمي ؛ انهض حائرا لا اعرف وجهة الصوت ثم امضي نحو المحاسب ؛ لم اسأله كم ادفع ولم يسالني بدوره استفسارا ؛اصاب الجميع وجوم رتب المكان قسرا وفرض النظام ؛ خرجت بعدها ؛ شاب يكاد يمزق قميصه وهو يبكي تضامن عغوي حول ضجة السوق والمتاجر لاستفتاء اقترع فيه الناس ببث غناء الفقيد ؛ المتاجر . باعة المرطبات ؛ الطريق غبار الامكنة . الريح الباردة يومها . كل بدا منزعج القسمات ؛ كان محمود يطل من كل الزوايا صوتا وموسيقي ؛ عدت للمنزل عفت العمل يومها لزمت الصمت الطويل
بعدها بعام كنت رفقة زملاء نشارك في قمة افريقية باديس ابابا ؛ نزل جميل قصدناه في مكان يسمي (اولمبيا) صاحبة المكان اثيوبية وطيدة الصلة بالسودانيين فقد عبر بعض ابناءها فجاجه وعنته وربما كريم كرم اهله للمهاجر نجح ابنين ومات الثالث في متاهات المدائن عندنا فاسرت لسبب ما الوفاء لنا ؛ تحسن الينا في اسعار السكن وتبرنا ؛ كان الوقت صباحا حيث انزل عادة اشرب الشاي واكل (الامباشا) مع السيدة (سهاي) ؛ اكون عادة اول المنتظرين لرفاقي ؛ اثرثر معها ؛ اضحك من بعض الحديث وتضحك من بعض شغبي وشجاري الدائم وعمال النزل وقطيعتي حول ذاك الصيني النزيل المولع باكل حشائش يدسها في علبة في ميقات معلوم ؛ كانت صالة الاستقبال تحوي تلفازا اطلت عليه قناة النيل الازرق ؛ لسبب ما اختار المعد والمخرج اغنية لمحمود عبد العزيز ؛ تركت كوب الشاي ؛ بدا كان النص موجها لي بعض الغناء يصادف مرات مزامنة تثير الشجن ؛ تمدد الصوت عريضا فخيما ؛ طارت الالحان فطرت ؛ شيئ ما اشعرني بالبكاء فنحت ؛ صمتت (سهاي ) ثم دخلت هي نفسها في موج عريض السدول من البكاء فحضر حينها الاستاذ حسن البطري .. نظر للشاشة ؛ تأمل برهة ثم جلس بعينيه بريق شئ ما ثم بكي ؛ احسست حينها اني قصمت فؤاد الرجل فقمت اتجلد الم رداء الحزن فقال دعني .. احب هذا الفتي ؛ خرجت وحينما عدت وجدت (سهاي) تشعل شمعة وترسل ترانيم جزلة الدعاء قلت لها ما بك قالت اقيم دعاء لمحود قلت اتعرفينه قالت عرفته في فجيعتكم عليه
…..
محمود عبد العزيز … فلترقد في سلام …
الخرطوم: محمد حامد جمعة
أ. محمد حامد
” فلترقد في سلام ” العبارة لا غبار عليها
لكن هي من ألزم لوازم المعجم النصراني …..!!