مسلحو دارفور.. ثمة تغيير
ثمة تغيير ما في تفكير حركات دارفور المسلحة المتشددة، التي ظلت تقاتل الحكومة في السودان بشراسة لأكثر من اثنى عشر عاما. بيد أنها لم تحقق نصرا معلوما وفي ذات لم تتمكن الخرطوم من القضاء عليها؛ بل حصدت المواجهات بين الجانبين آلاف الأرواح البريئة، وانقسمت الحركات المسلحة حتى زاد عددها على أكثر من أربعين حركة، بينما أنهك الجيش السوداني حتى لجأت الحكومة للاستعانة بالملشيات القبلية أو ما يعرف بقوات الدعم السريع التي يشرف عليها جهاز الأمن، فزادت الأوضاع على الأرض تأزما وتعقيدا.
لأول مرة يجتمع الوسيط القطري أحمد بن عبد الله آل محمود، نائب رئيس مجلس الوزراء برئيسي أكبر الحركات المسلحة، مني أركو مناوي رئيس “حركة جيش تحرير السودان”، وجبريل إبراهيم رئيس “حركة العدل والمساواة” في باريس الأسبوع الماضي. ولطالما رفضت هاتان الحركتان التوقيع على وثيقة الدوحة (يوليو 2011)، لكن الحركتين استعصمتا بالعمل المسلح لتحقيق أهدافهما السياسية، رغم أن وثيقة الدوحة نظمت اقتسام السلطة والثروة وحقوق الإنسان واللجوء والنزوح والتعويضات ووضع الإقليم الإداري والعدالة والمصالحات. التطور المهم أشار إليه بيان مشترك عقب ذلك الاجتماع، اتفاق الأطراف الثلاثة بأن تقدم الحركتان ورقة تفصيلية للوساطة القطرية تتضمن رؤيتهما حول “إمكانية إيجاد قواسم مشتركة لعملية السلام في دارفور في أقرب وقت ممكن”.
وهناك مؤشر مهم جدا وهو أن الاجتماع تم بطلب من الحركتين للقاء الوساطة للتفاكر حول عملية سلام دارفور، حيث تطالب بفتح وثيقة الدوحة للمفاوضات وهو ما ظلت ترفضه الخرطوم تقصر التفاوض على اتفاقية أمنية تتعلق بوضعية مقاتليها. وسبق الاجتماع بعدة أسابيع انشقاق جديد في “حركة العدل والمساواة” ووصل قائد الانشقاق إلى الخرطوم مبديا رغبته في إضافة بروتوكولات جديدة لوثيقة الدوحة، ولاقى ذلك مباركة مبدئية ووعدا بالتشاور حولها.
منذ اندلاع شرارة التمرد المسلح في دارفور في فبراير 2003، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وهبت رياح العقلانية تسوق خيار التفاوض والسلام إلى دارفور تزامنا مع الجهود القطرية الحثيثة التي أثمرت توقيع اتفاقية سلام الدوحة.. ولربما تسارعت الخطى مؤخرا لتنضم أكثر الحركات تشددا، لعدة أسباب ساهمت بمقادير مختلفة في بلورة الموقف الأخير.. ولا يستبعد المحللون قيام الدكتور حسن الترابي بمجهودات حثيثة لإقناع حركة العدل والمساواة للحاق بمركب السلام وزار الترابي الدوحة نهاية الشهر الماضي.. ويتمتع الرجل بعلاقات قوية مع الدوحة التي مازالت تحتفظ بدور ريادي في جهود إرساء السلام في دارفور.
ويبدو كذلك أن الخلاف الكبير الذي ضرب الجبهة الثورية المعارضة في أكتوبر الماضي وهي تحالف بين الحركة الشعبية قطاع الشمال وثلاث من حركات دارفور المعارضة غير الموقعة على اتفاقية سلام الدوحة قد حد من شهية حركات دارفور للعمل المسلح.. وتمثل الخلاف في تمسك الحركات الدارفورية في الجبهة بانتقال منصب الرئاسة إليها، بينما رفضت الحركة الشعبية قطاع الشمال الخطوة في الوقت الحالي وتتشبث بالمنصب.
في الخرطوم تواصل الحكومة محاولات استقطاب العديد من الحركات الأخرى؛ حيث أعلن أن عدد الحركات المسلحة المشاركة بمؤتمر الحوار الوطني الذي يجري حاليا قد ارتفع إلى 36 حركة بعد انضمام أربع حركات جديدة.. وتكاثرت الحركات بسبب الانقسامات والانشقاقات ولم تكن دارفور تعرف مع بدايات التمرد سوى فصيلين عسكريين سياسيين هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة.
وهناك عامل لوجيستي آخر، وهو الصراع القبلي الدامي في دولة جنوب السودان، التي احتضنت الحركات المسلحة خاصة بعد انهيار نظام القذافي في ليبيا وارتباط تشاد باتفاقات أمنية مع السودان، فكان لتدخلات تشاد وليبيا نصيب كبير في تأزيم القضية؛ حيث وفرت تشاد في وقت سابق الدعم اللوجستي للحركات المسلحة والملاذ الآمن، وكان دور ليبيا في عهد القذافي توفير المال والسلاح.
إن فشل الخرطوم في وضع حل نهائي حتى اليوم نابع من عدة أسباب متضافرة ومتآزرة، فالحكومة تحاول التركيز على الأسباب الطبيعية المتوارثة تاريخية حيث التنازع على المرعى والماء والصراع الأزلي بين القبائل الرعوية والزراعية حول هذين الموردين، وتحاول مستميتة إغفال الأسباب السياسية واستبعادها، مع ضعفها الاستخباراتي والأمني في دارفور.. وكان لعداوات الخرطوم الداخلية والخارجية قدحٌ معلى في زيادة أوار الحريق الذي اندلع في ذلك الإقليم المهم والمترامي الأطراف حيث تساوي مساحته مساحة فرنسا.
اليوم.. حال إنسان دارفور مثله مثل ذلك الثائر التونسي الذي قال جملته المؤثرة (لقد هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية) ومن حسن حظه أنه نال مبتغاه أخيراً، بيد أن إنسان دارفور بلغ من عمر الانتظار عتياً. فمتى تأتي اللحظة التاريخية التي تشهد إغلاق ملف الأزمة المتطاولة نهائيا؟