منى عبد الفتاح : ألواحي
لوح الرحيل:
كانت وجهتي الصحراء، أملي للخلاص من صحراء أخرى انبلجت فيها لوعة ولسعات. تعبت أنبش الذكرى حين سرى بعضها من بين لفائف مخزونة ورماد وغابت أخريات. بعضها اختفى تحت جسارة اللحظة الخاطفة مضمخاً برائحة احتراق ندّ القدر. في الوطن متسعٌ لنا ولكن يضيق مدخله عند الخطوة الأولى كضيقه عند آخر خطوة للأوبة الكبرى، وفي ضيق المداخل أحياناً تُمتحن الخطى الأصيلة.
يتسع الوطن حين أحنّ من بعيد إلى أرضه السمراء، وفي الحنين إيماءٌ بالاخضرار. هي مسافة تختزل قربها فيما بين الشاطئين وتبدّل من فرط اختزالها طرقاتنا، ولكن في النهاية ثمة ضوء يشعّ من خرائط معلقة، ثمة ضوء يلمع في آخر نفق الزوال.
لوح الزمن:
هل يتنفس الزمن، هل يبطئ عند المنعطفات ويسرع في الطرقات المستوية؟ أناديه ليتقدّم مني كي أراه. أرى من يسابقني وأسابقه دون أن أدرك مبتغاي. يخادعني بألا أتعجّل، فلست الوحيدة التي لم تكتمل نصوصها غير المكتوبة على الألواح. أطلّ من فوق صرير الوقت المتقادم والمتجدّد لتبلغ روحي حقيقة واحدة أصيلة، هذا الذي لا نحسّه ولا ندركه ليس وهماً ولا حقيقة ولا بعضاً من يقين. في حضرته نلملم انزواء وضوحنا وفي غيابه تنكشف الذات عن رؤيا وتُختصر المسافة لتوقع في ألواح سره وصية أخيرة. وغير الحقيقة فصلٌ أخير ونصٌ أخير أكتبه على لوحي رهيناً للزمن.
لوح الخلود:
أيا آدم، أيا سقطتنا المدوية على أديم الأرض. رفقتك: أسعِد بها من رفقة وأنعِم. ذاتي أنا “حواء” مرهقةٌ جداً، ما زلتُ أتأمل صورتك التي لم تغادر صفحة مياهي عند النّهر. غادرتَ قبل التكوين، قبل سماع هسيس الصوت وقبل انعقاد العزم للترفق بالنزول إلى سمائنا الدنيا. أخذت معك كلماتي ولم تترك من مداد البحر إلا ملوحته، ومن أطراف دوران الساقية إلا تكرارها غير المُجدي في عقل من يجرّها ويرقب ماءها. كان الأمل عند التماع خيوط الصباح، ولكن تناثر عقدي ولن ينتظم في طرفة خاطرة. أيا آدم، أيا رفقة تضفي عليّ من سكون الرهبة، ماذا لو لم تكن خطيئة التفاحة الأولى، ماذا لو لم تكن رفقتك، ماذا لو لم تكن ولم أكنْ.
وراء كل شاعر وكاتب عظيم امرأة، يكتفي القول المأثور بهذا ولا يقول امرأة عظيمة، لأنّ من ضمن أسباب الكتابة الأولى هو المعاناة، والرجل لا يحتمل هذا فتتحوّل معاناته ويفرغها إيجاباً ليصبح شاعراً، كاتباً أو فيلسوفاً. لم أسمع بأن وراء كل امرأة ناجحة مثلاً رجلاً على أساس أن المرأة منذ سلالات الآلهة القديمة وإلى عصر الأغاني الهابطة هي موقدة شرارة الشعر والنجاح بالنسبة للرجل: الأم، الجدة، العمة والخالة في هدهداتهن، الحبيبة في تمنّعها وفي غدرها. لن أهدر وقتي في البحث عن شاعرات خضن المعاناة نفسها، غُرّر بهن أو غُدِر أو تمت خيانتهن.
لوحٌ أخير:
– هنا أقف، على كومة من ذاكرة، وبعض حاضرٍ، ليست محطتي الأخيرة، ولكن أحلام سفري تضاءلت وغدا الرحيل الذي عشقته مستحيلاً، لأنك سكنت فيّ، أهديك رسائل بلا عصيان لغوي ولا خيانات تعبيرية فقد كانت هوايتك عند الخانة الرتيبة التي لا تكون فارغة أبداً هي المراسلة، ولكأنّه من المفترض أن تكون للجميع هوايات بمن فيهم أنت.
أقف الآن لأكتب غداً، بكل دوافع الكتابة الخفية، عن دعاية الحرية حتى تتحقق، عن كون طاقتنا روحاً بلا إنشاء ولا بلاغة حتى تصل مصيرها المعرفي، عن اللا فرق بين المحدّدات المعرفيّة والنوايا المحايدة، عن كتاباتي، قصاصاتي.. يفوح منها عطر حديثك الأول.