يحدثني وهو لا ينظر الي وانما منكب علي التوضيب؛ سمكك هذا سمك مزارع !
أفتقدت مع مطلع العام الجديد صديقي العم (عبد الكافي) ؛ اظنه من سكان العباسية ؛ رجل رغم انه علي مطالع السبعين لكنه جلي النظر ؛ جهير الصوت دائم الحركة ؛ تعرفت عليه ذات صباح مبروك من ايام الجمعة ؛ كان يعمل في ملجة السمك بالموردة ؛ ينتظر الزبائن ممن يشترون احتياجاتهم من البلطي والكبروس والبياض و(خشم بنات) ؛ فياخذ اسماك من يرغب الي متكأ خلفي حيث يملك سكينا وساطورا عريض اللسان ؛
ينثر الاسماك علي فرشة هي بقايا مستهلك لجوال سكر ؛ تناثرت عليه اصص من بعض احشاء السمك التي جفت مع قليل من نثار الدم وبعض الزيوت ؛ يجري بالسكين علي جلد السمكة كاشطا غطاء قشورها فينزعها كما ينزع احدهم اثامه حين فرض كبير ؛ كنت استمتع بالانس معه ؛ اذ اقف الي جواره ويده اليسري تحيل السمك من حالة الخام الي وضعية الجاهزية للطبخ والتحمير ؛ يحدثني وهو لا ينظر الي وانما منكب علي التوضيب ؛ سمكك هذا سمك مزارع ! يقول وهو يشق نياط البلطية فيما يلي الخياشيم وبحرص انيق يشد احشاء نقية وهو يقول سمك النيل طيني المحتوي ؛ ثم يلامس راس سمكة اخري ويخبرني كانت محفوظة في ثلاجة ؛ استفسره بجزع هل فيه كيماويات يقول باختصار لا لكن سمك النيل اطعم وابرك ؛
ثم يقطع الحديث ليرفع صوته مناديا علي احد رفاقه مرسلا له عبر حاجز من الاسمنت وشمه العمال برسومات من الفحم هي بعض ادعية ورقم هاتف رسمه احدهم مثل نحوت المعابد يرسل تحيته ونص عزاء ثم يستدرك معتذرا انه لم يضع حصته في (الكشف) لانه وقتها كانت حالته (شلش) يتقبل الاخر اعتذار العم كافي بطيب خاطر مهيب وهو يقول لا بهمك خيرك سابق ؛
يعود صديقي للانكباب علي عمله ؛ يحسن ادارة الشال السميك علي عنق اسمر ثم يلتفت نحوي وهو يتحسس جيبه والسكين تمضي نحوي اثناء بحثه وهو يقول تشرب شاي يا بني ؛ اقول شكرا معتذرا وانا اقول في نفسي هذا الرجل سانقده عشر جنيهات فان احضر شاي تقلص عائده لثمانية او سبع جنيهات فاركن للرفض وعيناي تركزان علي سمكة كبيرة بشكل لافت سمكة بحجم صبي وقد شقت الي نصفين فبدت مثل نجل حوت من محيط ؛ انظر اليها ليقول كافي محددا نوعها – نسيته- ثم يضيف ان لهذا النوع شحم مثل الودك ان اذبته ونقعت زيته حتي يبرد ومسحت به عيناك جلوت بصرك ومنعت عنها المياه البيضاء ؛ تبسمت ساخرا ويبدو اني قد اثرت حنقه فاقترب مني وهو يفتح عينيه (عاين عيون عمك دي) ؛ احسست بالاقتناع كانت له اعين صافية ؛ حتي تلك العروق الدامية علي بياض العين لم الحظها عنده ؛
ثم عاد لعمله وهو يرسل صفيرا باحد اغاني زيدان ؛ يقطع دندنة الصافرة وهو يقول ابوالزيود ياخي ؛ اقول له تحبه فيقول عباسية مية المية ؛ يحدثني عن ايامه بين بانت شرق وغرب وكيف ان (امبده) كانت خلاء قفر ؛ يسرد شيئا من حكايات ليل المدينة والريفيرا والجندول وسينما الوطنية ويستدرك لقد عشنا وشفنا كسبنا وربحنا ؛ كان للقرش هيبة وللمال عز وللشباب عنفوان ؛ قال وهو ينهي عمله هل اشق لك السمك عرض ام طول ام اقطعه ؟ حرت جوابا ولم اعقب فقال وهو يضحك انت مرسال شكلك ؛
ثم قال وهو يودعني مشيرا لمجلس بعض رفاقه حين تات للمرة المقبلة تجدني معهم ؛ لا يغرنك حالنا البائس ؛ نحن تاريخ وحكايات هذه المدينة خاننا البر فاكرمنا النيل ! بدت لي مقولة عميقة .. عميقة كانما قالها (الخضر) في مقام تعليم موسي ، فحفظها العم كافي واسقطها رواة التفاسير
جميل و الله مقالك , حياك الله ……..