لا لاستفزاز الأغلبية (4)
في عالمنا المعاصر أكثر من ملياري شخص لم يسبق لهم التعامل مع الهواتف، بينما عدد الهواتف النقالة في مملكة البحرين -مثلا- ضعف عدد المواطنين، ولكن مواطني بابوا غينيا الجديدة وإفريقيا الوسطى ورواندا لا يحقدون على البحرينيين، ولا يستفزهم أن البحرينيين يعيشون في بحبوحة هاتفية، بل يستفزهم أن يكون هناك بضع مئات من مواطني بلدانهم لديهم هواتف «الثريا»، العابرة للشبكات وتعمل في القطب الجنوبي وقمة جبل إيفرست.
أعني أن ما يستفز مواطني الدول الفقيرة، التي تعاني من سوء توزيع الثروة، أن يركب غالبيتهم الدواب أو أرجلهم، بينما حولهم بضعة أفراد يملكون يخوتًا أو طائرات خاصة ولو كانت من النوع المستخدم في رش الجراد بالمبيدات، ويمرون بمقالب قمامة أمام بعض البيوت ويجدون أهله «المفترون» وقد ألقوا فيها بفواكه وأطعمة لا أثر للعفن فيها، وسمعت كثيرا عبارات حسد للخليجيين من بعض «أشقائهم» العرب الذين يستكثرون على الخليجيين ثراء متوهمًا! نعم، فمن الشائع في العالم العربي أن كل خليجي «غني»، وأن معظم الخليجيين «سفهاء يلعبون بالمال»، وقد يكون «ثراء الخليجيين» صحيحًا إذا قاس شخص عربي غير خليجي دخله الشهري بمتوسط دخل الفرد في الخليج، (والمتوسط لا يميز بين سعيد وتعيس)، أو توصل إلى ذلك الاستنتاج في ضوء لقطات تلفزيونية لمدن خليجية: آلاف مؤلفة من السيارات الفارهة.. عمارات شاهقة.. شوارع مسفلتة.. ثم يقارن كل ذلك بما يراه في شوارع مدينته: سيارات من مخلفات الحرب الصليبية الأولى، وإشارات مرور تعمل بالفحم الحجري، وبناية من ثلاثة طوابق يسميها صاحبها «عمارة إمباير ستيت» ولا يصدق مثل ذلك العربي أن معظم تلك السيارات الفارهة «مرهونة»، بل سيعتبرك كاذبًا محترفًا لو قلت له إن بعض أصدقائك الخليجيين يشترون السيارات بالتقسيط المريع -وليس هناك تقسيط «مريح»- ليبيعوها نقدًا بما يعادل ثلثي سعرها الأصلي لتوفير السيولة النقدية لأمر طارئ وضروري.
ذهبت ذات مرة إلى فندق في الخرطوم لزيارة صديق قطري كان يقيم فيه خلال فترة الامتحانات في جامعة كان ينتسب إليها، وتقدم نحوي محييًا موظفا في الفندق يبدو أنه عرفني لأنه رأى صورتي التي تنشر قرين مقالات لي في صحيفة سودانية، ورحّب بي ودعاني إلى تناول «شيء» في الكافتيريا، فشكرته وشرحت له أنني أتيت لزيارة صديقي القطري فلان الفلاني، وبعد تردد سألني موظف الفندق هذا عما إذا كان «صاحبك ده فعلاً قطري؟»، فقلت له إنه ليس هناك شخص قطري «فعلاً»، وآخر قطري «نظريًا».
تطوع موظف الفندق بالشرح: أخونا ده ما أكل وجبة واحدة في الفندق، ويجي راجع شايل معاه سندويتشات فول وطعمية وشاورما! كذا؟ انتماؤه إلى قطر مشكوك فيه لأنه لا يملك المال الذي يجعله يأكل طبق بامية في الفندق بـ15 دولارا لأنه يجد الطبق نفسه بثلاثة دولارات في مطعم عادي؟.. وتساءل: لو القطري بيأكل فول وطعمية أمال نحن نأكل إيه؟ قلت له: لعلمك، إنّ أفضل مطاعم الفول والطعمية في العالم توجد في السعودية، وأعتقد أنَّ صاحبنا شك في قواي العقلية.
نختم هذه السلسلة بحكاية الرجل الثري الذي كان مزهوًا بسيارته الـ«بي إم دبليو» إلى أن تحرشت بها ذات يوم سيارة كحيانة، وأطاحت بها خارج الشارع، وجاء شرطي المرور ووجد الثري يبكي على الضرر الذي لحق بسيارته، فقال له: يا سيدي أنت تبكي يدك اليسرى التي بترت ولا تبكي السيارة.. هنا انفجر الثري مولولا: يعني الساعة الرولكس كمان راحت فيها؟