ثمن الأخطاء الأمريكية
> الحوادث التي تتبناها الجماعات التي تعتمد العنف والقتل، سواء في الداخل الأوروبي كهجمات باريس الأسبوع الماضي التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، أم حادث فندق راديسون في باماكو عاصمة مالي أول من أمس، الذي تبناه تنظيم المرابطون قريب الصلة بتنظيم القاعدة، تفتح الباب أمام حوار عميق يغور في لباب قضايا التباينات الحضارية والدينية والفكرية والسياسية بين الغرب وبقية مناطق العالم، خاصة العالم الثالث، وما عانته الشعوب من قهر واحتلال وظلم على أيدي الغربيين خلال فترة الاستعمار أو منطق الهيمنة والقوة وفرض السيطرة والنفوذ الذي تمارسه الدول الغربية على الأقطار المهيضة الجناح..
> القضية ليست تطرفاً وتشدداً وإرهاباً باسم الإسلام، فالقيم الأخلاقية المتحضرة الراقية التي يعبر عنها الدين الإسلامي، أكبر وأسمى من كل ما يؤفك به الغرب بمختلف توجهاته، لكنها قضية محفورة في صخرة الماضي والذاكرة تتجلى في هذه الدورة الراهنة من حركة التاريخ، فالشعوب التي سُلخت من ثقافتها وأصولها وفُرضت عليها ثقافة أخرى ونمط حياة بديل، وتم تطويعها وترويضها ونهب وسلب ثرواتها، وهي ترى الظلم والاستكبار والاحتقار وازدواجية المعايير وشرعنة الاحتلال والقهر والقتل الممهنج، فلابد أن تتوالد في أجيالها الجديدة روح الرفض والكراهية بالنظر إلى ظروفها وواقعها البائس المُر، وشظف العيش وفقدان الأمل. فهذه الأجيال حصدت الثمار المرة للخمسين سنة الماضية أو تزيد، خاصة عهود ما بعد الاستقلال، وتراكمت لديها صورة شائهة لحاضرها وصورة أكثر تشوهاً لمستقبلها. فالأنظمة الوطنية الفاسدة العميلة التي خلفتها القوى الاستعمارية وراءها وورتثها السلطة، وكانت الامتدادات السياسية والنفسية والثقافية والإدارية للفترة الاستعمارية، لم تستطع تجسير المسافة بين الشعوب وآمالها في التحرر والانعتاق والنهضة، ولم تنجح هذه الأنظمة العميلة من لجم شهواتها في القتل والقهر والجور والتنكيل بالشعوب لتكون خاضة ذليلة وخانعة لها..
> واستمر الحال بكل بشاعته سنين عددا، لم يطرف للغرب جفن وهو يرى الأنظمة الظالمة تمارس العنف وترتكب الجرائم المستبشعة وتنتهك كرامة الإنسان، فبينما ظل الغربيون يدعمون هذه الأنظمة ويدعمون الاحتلال الصهيوني لفلسطين ويستبيحون دم الشعب الفلسطيني الأعزل، كانت تتنامى تيارات الغاضبين والحانقين، حتى بلغ بهم اليأس لاعتناق الأفكار المتطرفة على أنها الحق، ويبذل منسوبو هذه التيارات دماءهم في سبيل ما اعتقدوا فيه وآمنوا به وقدموا أنفسهم فداءً له.
> ولا يستطيع الغرب اليوم خاصة في القارة الأوروبية العجوز، وهو يقف على حافة الهلع والجزع والخوف والحيرة، أن يتعامل بحكمة وروية في ما يجري في داخله أو الخطر الذي يتهدد رعايا الدول الأوروبية في كل مكان، وقد استطاعت هذه الجماعات المتشددة بعنفها القاتل، أن تصل إلى أي مكان في العمق الأوروبي والأمريكي، وفي أمكنة أخرى في العالم الفسيح، لا أحد يعلم من أين يأتي الموت والدم والبارود والمتفجرات والشباب المستعد للموت، وقادر في لمح البصر أن يفجر نفسه بالأحزمة الناسفة.
> يواجه الغرب عدواً جديداً، ليس هو القاعدة التي كانت تقاتل في جبال ومرتفعات أفغانستان ومناطق محدودة في إفريقيا وبلدان آسيوية وعربية، إنما عدو شرس منتشر كالوباء في كل مكان، لا مقر له ولا عنوان، من كل جنس ولون، هم أروبيون في أوروبا وأفارقة في إفريقيا وآسيويين في آسيا، وربما موجودين في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأمريكا الجنوبية، حيثما يمم المرء وجهه تجد هذه الجماعات وهي متحفزة لقتال..
> لا ينفع العويل والبكاء والتهديدات والوعيد، كما تفعل الحكومات الأوروبية اليوم، فهي تدفع ثمناً باهظاً للغاية لسيرها وراء الولايات المتحدة الأمريكية التي جرَّت العالم إلى شرور الحروب وتدمير الدول، كما فعلت بأفغانستان والعراق والصومال وسوريا وليبيا واليمن ومالي ليبيريا وغيرها، هذا الثمن الباهظ يجعل أوروبا اليوم تواجه حرباً من نوع آخر في دفع الثمن مرتين، ثمن أخطاءها الاستعمارية وهو ثمن لابد منه، والأثمان الأخرى التي ستدفعها تكمن هي اتباعها النهج الأمريكي وتورطها في خدمة الأهداف الإستراتيجية الأمريكية وسياساتها الطائشة التي تعتمد على استخدام القوة ولا يولد العنف إلا العنف..
> إذا أرادت القارة العجوز معالجة الأوضاع الراهنة والتخلص من مواجهة لا نهاية لها مع أشباح وتنظيمات معقدة التكوين والإدارة ونظام العمل، عليها مراجعة سياساتها ومواقفها والنظر في أسس الصراع الحضاري وقيمها التي تتعامل بها وتتناقض في تطبيقاتها مع العالم المظلوم المقهور وتجفيف منابع الغضب والحنق..