الكُوِرِكِيِّة السياسية والثقافية
في العامية يقولون (الكروكي) وهي كلمة من المُعربات (الدراجة) لـلمصطلح التقني الهندسي الخاص بالخرائط (Quirky)، ومعنى الكلمة المباشر (ملتوي)، إذ إن خريطة (الكروكي) تتسم بتعرجات بالغة التعقيد فتبدو لناظريها كالمتاهة، وغالباً ما يضطر كثيرون إلى الاستعانة بمهندس لفك (شفراتها) وبسط التواءاتها وإجلاء غموضها.
الآن وهنا، يبدو المشهد الماثل مثل (الكُروكي) تماماً، وربما لذلك ترتبت عليه بعض (الكتابات) الصحفية الملتوية، والتي تحتاج – كما المشهد (الأصل) إلى خبير تقني ليُفككها ويخلع لبسها ويزيل غموضها، وهذه نتيجة حتمية لما يدور في الساحة الهارجة والعاجة بكل ما هو غث وزبد، والخالية من كل ما هو ثمين ينفع الناس.
وفي ما يهرج المحلل السياسي الإسلاموي (أمس) يجد نفسه مورطاً في متاهة تحليل (إستراتيجي) للأحداث في المنطقة العربية والقرن الأفريقي، ولأنه لا يملك الكثير في هذا الصدد، فقد أدخل قلمه في (محبرة) جافة، وطفق يريد رسم المشهد المعقد، فصار كمن (ينكت) على طريقة (أمريكا روسيا قد دنا عذابها عليَّ أن لاقيتها ضرابها).
الكروكي السياسي السوداني، لا يحتاج تفكيكه إلى ضارب رمل ولا ساحر، بل إلى (تقني) حاذق وأمين، لا يكذب ولا يلتوي. لأن القارئ والمتابع السوداني (البسيط جداً) يعرف أين (الصاح) وأين (الخطأ)، ويعرف الحقيقة من الزيف. فليس ثمة داعٍ – في هذه المرحلة بالذات – على تصديق المقولة القديمة المنسوبة إلى الترابي ( الكذب في سبيل الدعوة حلال)، والعمل بمقتضاها حتى في التحليل السياسي.
ما يجري من حولنا معروف وماثل، وعلينا أن نقول الحقيقة، كما هي، بدلاً عن الالتفاف عليها، وهي باختصار، أننا كنا على (هامش الهامش) بالنسبة لمنظومة الشرق الأوسط و(الوطن العربي)، وهي منظومة هشة غير متماسكة وها هي انهارت الآن تماماً، وبصدد أن يعاد تقسيمها بحسب ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، الذي نحن خارجه أصلاً ومن (زمان).
علينا الآن البحث عن منظومتنا (القرن الأفريقي الكبير)، الصومال، جيبوتي، ارتريا، أثيوبيا، السودان، كينيا) وربما (جنوب السودان وأوغندا)، إضافة إلى (اليمن) في الجانب الشرقي من البحر الأحمر، ومن ثم فإن للسعودية ومصر والأردن أدواراً مهمة في هذا الصدد. بينما لا يمكن إغفال تشاد ودول حوض النيجر خاصة نيجيريا، لما لنا معها من تماسات وتشابكات وأواصر قربي ودم وجذور.
انخراطنا، في منظومتنا هذه، يجعلنا أكثر هدوءاً وتماسكاً في جبهات كثيرة ظل الناس يرطنون في شأنها ويعربون، منذ قبل استقلال البلاد وإلى لحظة ما يُسمى بالحوار الوطني الراهن، وأهمها الأمن الإستراتيجي، والهوية الثقافية، إذ إن هاتين المسألتين لم تتحققا لعقود طويلة ضمن منظومة الشرق الأوسط والوطن العربي، لأسباب يعلمها الجميع وينكرونها، للأسف، لذلك وجب علينا الآن أن نتصالح مع ذواتنا (الفانية) ونعترف بهويتنا وننخرط في منظومتنا الجغرافية والديموغرافية والثقافية، حتى ننفض عن أيدينا هذا الهرج العظيم، ونتفرغ للإنتاج والتنمية والرفاهية.