دنقلا مدينة رياضية …!
«الرياضة الجادة حرب من دون إطلاق نار» .. جورج أورويل ..!
كانت زائير تعيش أكثر أيامها فقراً وعوزاً عندما قرر رئيس الجمهورية – وقتها – موبوتو سيسي سيكو، أن يقدم على خطوة اقتصادية ظاهرها الترف غير المعقول وباطنها دعم مشاريع محاربة الفقر في بلاده .. استدان الرئيس الزائيري أمولاً طائلة من البنك الدولي، ليس من أجل إطعام شعبه الجائع بل من أجل تنظيم مباراة الملاكمة الشهيرة التي جمعت محمد علي كلاي وجورج فورمان، في سبعينات القرن الماضي ..!
قبيل المباراة سأل أحد الصحفيين الضيوف رئيس الجمهورية قائلاً: «هل يحتاج الشعب الزائيري لمثل هذه المباراة، أم يحتاج إلى الطعام»؟! .. فأجابه قائلاً «إن العالم كله سوف يعرف بعد المباراة أن هنالك دولة مهمة اسمها زائير، وسوف يأكل الشعب بعدها حتى يشبع، بعد قدوم المستثمرين – وما أكثرهم – لحضور هذا الحدث العظيم»! .. ثم فاز محمد علي كلاي على جورج فورمان بالضربة القاضية، فاستغل الرئيس موبوتو هذه الفرصة المرتقبة وبدأ يتحدث عن وحدة زائير، وهو يُشبِّه سياساته الديكتاتورية في تصريف شؤون البلاد ببطولات محمد علي كلاي في تحقيق الانتصارات! .. وهكذا ضربت الرياضة على طبول الاقتصاد، فسقط عجز الميزانية بالضربة القاضية ..!
يوم أمس قال الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مخاطباً المؤتمر الصحفي الذي نظمته لجنة تطوير الرياضة في الولاية الشمالية ما يمكن تلخيصه في أن «الرياضة في السودان سبقت السياسة، فتشكلت الفرق وأقيمت المنافسات الرياضية قبل تحقق الاستقلال.. وكل مناطق السودان خرج منها لاعبون رياضيون على المستوى المحلي والدولي، لكنها رغم ذلك ظلت بعيدة عن المنافسات المحلية بفرق كرة قدم قوية، لذا كان لا بد من وقفات، أهمها تفعيل فكرة نقل مباريات نهائي كرة القدم إلى الولايات «تنظيم مباراة النهائي لكرة القدم في مدينة دنقلا مثالاً» وبالتالي تأهيل البنى التحتية وتوفير المزيد منها في تلك الولايات» .. وتحدث الدكتور أحمد قاسم رئيس اللجنة المالية عن دور الشركات والمؤسسات والمصارف في دعم الميزانية التي جاوزت الملايين الست، بالجديد «والتي شملت منصرفاتها على تأهيل الاستاد وتأهيل المرافق الخاصة بالجانب الذي يلي المدينة من شريان الشمال وتهيئة محلات الإقامة الخاصة بالضيوف ووضع لافتات على امتداد الطريق تشرح البعد التاريخي والأثري لبعض المناطق».. إلخ ..!
لا أخفي انحيازي التام لأي حدث يلقي الضوء على عراقة وثراء الولاية الشمالية التي لو كانت إحدى مدن جارتنا مصر في شمال الوادي لأصبحت مزاراً لملايين السياح ولساهمت في دعم الاقتصاد الوطني بنسبة مقدرة من ريع الاستثمار السياحي.. أما إقامة المباريات الهامة في مدن السودان المختلفة عوضاً عن اقتصارها على العاصمة، فلا ينكر عاقل جدوى العائد الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي الذي ينتج عنها.. الولايات المتحدة نفسها عندما استضافت كأس العالم في التسعينات أقامت بعض المباريات النهائية في تسع مدن متباعدة تفصلها مسافات شاسعة ..!
وقد استثمرت جنوب أفريقيا أكثر من أربعة مليارات دولار على إنشاء الملاعب والبنية التحتية من شبكات طرق ومواصلات وقطارات أنجزتها خصيصاً لكأس العالم لأنها كانت تعلم أن هذه البنية ستعمل كجاذب للاستثمار وتحسين مستوى معيشة المواطنين.. فضلاً عن انتعاش التدريب الرياضي والفتوحات الثقافية وفرص التوظيف التي استفاد منها السكان المحليون لكل مدينة.. فكان العائد الاقتصادي للحدث أكثر من خمسة مليارات دولار ..!
إقامة مثل هذا الحدث الرياضي الكبير في مدينة دنقلا يعني إحداث تنمية في قطاع الرياضة والسياحة – بالمنطقة – على حد سواء، ونجاح للتفاعل والامتزاج الثقافي المطلوب وإبراز للصورة المشرقة للمنطقة، وهو يعني أيضاً فرصة كبرى للترويج للمنتج المحلي وانفتاح مصادر رزق لفئات كثيرة من السكان هناك.. فضلاً عن عائدات الولاية من تنشيط قطاعات اقتصادية مختلفة داخل الولاية وريع بيع حق البث التلفزيوني وبيع تذاكر المباريات و الأموال التي تدفعها الشركات الراعية للمباراة للإعلان عن منتجاتها ..!
يحدث مثل ذلك وأكثر لأن نجاح الفعاليات الرياضية هو أحد وجوه النجاحات السياسية والفتوحات الاقتصادية .. فهل من مُذَّكر ..؟
كل العائد ح يدخل جيوب المسؤلين ,ما تاملي يا اختاه.