أليس الغناء في النهاية هو دموع الروح؟
ما كادت تُطلّ على الجمهور، حتّى ارتفعت موجة من التصفيق والهتافات الوطنيّة، وراح البعض يلوّح بأعلام الجزائر. كان الجوّ مشتعلًا بما فيه الكفاية. شعرت بأن الذين حضروا لم يأتوا للطرب، بل ليعلنوا رفضهم للإرهاب. إنّها هنا أمام أنصارها.
ارتجلت كلامًا كانت قد أعدّت بعض أفكاره في ذهنها. جاء كلامها مذهلًا في تلقائيّته، مؤثّرًا في نبرة قوّته. خيّم صمت كبير على القاعة. لقد كانت تتكلّم وهي تطلّ عليهم من جبلها ذاك.
قالت:
_ ذات يوم.. ساق الإسرائيليّون سهى بشارة بطلة المقاومة اللبنانيّة إلى ساحة الإعدام.. أوهموها أنهم سيعدمونها، قيّدوا يديها ورجليها وصوّبوا فوهة المسدّس إلى رأسها وسألوها عن أمنيتها الأخيرة في الحياة. ردّت «أريد أن أغنّي» وراح صوتها يترنّم بموّال من العتابا الجبليّة:
«هيهات يا بو الزلف عيني يا موليَّ
محْلا الهوى والهنا والعيشة بحرّية»
أشبعوها ضربًا وعادوا بها إلى الزنزانة. وواصلت سهى بشارة الغناء.
على مدى أعوام، اعتاد أسرى سجن الخيام سماع غنائها. صوتها البعيد الواهن، القادم من خلف قضبان زنزانتها، أبقاهم أشدّاء. فإنّ من يغنّي قد هزم خوفه.. إنّه إنسان حرّ!
بلى، بإمكان من لا يملك إلّا حباله الصوتيّة أن يلفّ الحبل حول عنق قاتله، يكفي أن يُغنّي، فلا قوّة تستطيع شيئًا ضدّ من قرّر أن يواجه الموت بالغناء.
عندما اغتال الإرهابيّون الشابّ حسني، وقطفوا زهرة صوته، ما توقّعوا أن يصعد شقيقه إلى المنصّة، ليثأر لدم أخيه بمواصلة أداء أغانيه أمام جثمانه، أربكهم أن يواجههم أعزل إلّا من حنجرته.
بلى، بإمكاننا أن نثأر لموتانا بالغناء. فالذين قتلوهم أرادوا اغتيال الجزائر باغتيال البهجة. أوليست «البهجة» هي الاسم الثاني للجزائر؟ ليعلموا أنهم لن يخيفونا، ولن يسكتونا.. نحن هنا لنغنّي من أجل الجزائر، فوحدهم السعداء بإمكانهم إعمار وطن.
انطلق النشيد الوطنيّ ووقفت القاعة تنشد:
«قسمًا بالنازلات الماحقات والجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا فاشهدوا».
ما كاد ينتهي النشيد حتّى ارتفعت الزغاريد والهتافات، وصعدت سيّدة إلى المنصّة لتقبِّلها وتضع علم الجزائر على كتفيها.
حيث تحلّ يقلّدها الموت وسامه. هي ابنة القتيل وأخت القتيل. لها قرابة بمئتي ألف جزائري ما عادوا هنا. قتلهم الإرهابيون، واختلف في تسميتهم الفقهاء: أهُم «قتلى»؟ أم «ضحايا»؟ أم «شهداء»؟ فكيف يفوزون بشرف الشهادة، وهم لم يموتوا على أيدي «النصارى» بل على أيدي من يعتبرون أنفسهم يد الله، وبيده يقتلون من شاؤوا من عباده؟
كان ذلك الحفل أجمل ما عاشته منذ مأساتها. أدّت فيه أكثر ممّا كان مقرّرًا من أغان. ثم عادت ببعض باقات الورد، لتبكي ليلًا وحدها.
أليس الغناء في النهاية هو دموع الروح؟
من ” الأسود يليق بك ”