عصف ذهني ..!
“الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يكرروه” .. جورج سانتيانا ..!
(1)
الإرث الشفاهي للعلاقات الإنسانية في السودان يحمل مقداراً هائلاً من مفردات الاستبداد .. والاستعلاء .. والوصائية .. والمبالغة في نقد الآخر .. لا لشيء إلا لأنه مختلف وعلى نقيض .. فلا ضير إذاً من التشكيك في قواه العقلية إذا لزم الأمر .. ومع كل ذلك تبرز مفارقة اجتماعية مفادها أننا شعب يحذو سوداه الأعظم حذو الآخر .. لذلك يبقى التقليد هو سيد السلوكيات الاجتماعية في السودان، والبطل الشعبي الوحيد الذي لم يذق طعم الهزيمة حتى الآن ..!
(2)
الممارسة السياسية نفسها تقوم على الاستعلاء الفكري للقادة والإذعان والولاء غير المشروط للأعضاء/الأتباع .. من مأساة شيبون وصديقه صلاح في الحزب الشيوعي إلى مصائر أشباههم في الجبهة الإسلامية والأحزاب الطائفية والشراكات السياسية، ستجد دوماً أن مصارع الكوادر في قولة “بغم”، وإن أرادتْ إصلاحاً .. “حالة الأسياد” في السياسة السودانية ليست ظاهرة أو عرضاً موسمياً بل تاريخ مقيم، صحيح أن الأحزاب الطائفية التي تقوم على ازدواجية الزعامة والانتماء – وبالتالي شراسة الولاء – كرست لهذا النمط من الممارسة السياسية، لكن السبب الرئيس هو استعداد الشخصية السودانية للتصوف في ممارسة العضوية الحزبية، والدروشة في حضرة الأسياد/الزعماء ..!
(3)
معظم أسباب الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في السودان لا علاقة مباشرة لها بالسياسة، لكن الناس كما قال علي ابن أبي طالب (من خوف الذل في ذل)، والحكومات كما أكد رونالد ريجان (تميل إلى عدم حل المشاكل، فهي تعيد ترتيبها فقط) لأنها تظن – والظن لا يغني من الحق شيئاً – أن الاعتصامات لا تغير شيئاً، لكن الحقيقة غير ذلك، وأي احتجاج شعبي ضد أي تقصير سلطوي هي – اليوم – جزء من حراك إنساني محلي، عالمي، نحو دمقرطة التظاهر وأنسنة السلطة ..!
(4)
مواقف كثيرة لأدعياء الدين والدنيا، ظل هذا الشعب يتابعها بمزيج من السخرية وقلة الاكتراث، وظلت هذه الحكومة تتبعها بقليل من المسايرة وكثير من التبرير .. والنتيجة توسع دائرة التطرف المذهبي الذي يشد من أزره إرهاب إعلامي لا يملك من أدب الخصام أو شرف الخصومة شروى نقير، وينتهج الفجور في الخصومة مع كل مخالف للرأي أو المعتقد، حتى وقر في قلوب الكثيرين أنه على حق، وإلا لما علت أصواته، ولما خفتت أصوات المخالفين ..!
(5)
يكفي أن معظم رموزنا الفكرية هم من ورثة الفكر الجهادي الذي قاد دفة حرب الجنوب، قبل أن يستعصم بموقفه المتطرف من جهود الوحدة والسلام لأسباب أيدولوجية، وفي بعض الروايات شخصيَّة .. وتلك هي إحدى مظاهر أزمة التَسلُّف التي تمكنت من فكر الإسلام السياسي في السودان، فباتت أشواقه السياسية ووعوده الانتخابية أقرب إلى الثيوقراطية القائمة على دينية الدولة، منها إلى القناعة بصلاح الحكم الديموقراطي المبني على مبدأ الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية .. والنتيجة ردة فكرية ،واضطرابات منهجية خوفاً من ناقوس داعش ..!
هناك فرق – آخر لحظة