تحقيقات وتقاريرعالمية

بوتين في قفص الاتهام

ربما يتصور المرء عندما يقرأ الصحافة الدولية أن العامين الماضيين كانا طيبين مثمرين في حياة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على المستوى السياسي، فقد حققت حملته في أوكرانيا أهدافها الرئيسية إلى حد كبير، وانتزعت روسيا السيطرة على شبه جزيرة القرم وزعزعت استقرار أجزاء كبيرة من بقية البلاد.

وربما تسبب تراجع أسعار النفط بإرباك موارد روسيا المالية، لكن يبدو أن شعبية بوتين لم تتأثر حتى الآن.

بيد أن سلسلة طويلة من الهزائم القانونية التي نادرا ما يعقب عليها أحد ربما تخلف تأثيرا كبيرا على حظوظ بوتين، ففي عام 2014 -على سبيل المثال- أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان 129 حكما ضد روسيا، وفي يناير/كانون الثاني قرر مجلس أوروبا حرمان روسيا من حقوق التصويت بسبب انتهاكها القانون الدولي، ومع تراكم الأحكام بدأت تشكل تهديدا لمكانة روسيا وصحتها المالية وبوتين ذاته.
ولم تكن الأحكام رمزية فحسب، ففي يوليو/تموز 2014 أمرت المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي روسيا بدفع خمسين مليار دولار لمساهمين سابقين في شركة النفط يوكوس لأنها أفلستها بشكل غير قانوني ووزعت أصولها على روسنفت، الشركة المنتجة المملوكة للدولة.

وفي ذروة مجدها عام 2003 تم تقييم يوكوس بنحو ثلاثين مليار دولار، والحكم هو الأكبر على الإطلاق الذي تصدره محكمة التحكيم، ولا يجوز الطعن عليه، وقد بدأت فرنسا وبلجيكا في الاستيلاء على أصول روسية لإنفاذ الحكم.

في قضية منفصلة في يونيو/حزيران 2014 أمرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان روسيا بسداد أكثر من ملياري دولار للمساهمين في يوكوس “في ما يتصل بأضرار مالية”، وكان هذا الحكم أيضا هو الأكبر في تاريخ هذه المحكمة، وسوف تناضل روسيا التي تمر بأزمة سيولة من أجل جمع مثل هذه المبالغ الضخمة، لكن عدم الامتثال من شأنه أن يعرض الاستثمارات الأجنبية في المستقبل للخطر.

الواقع أن قضية يوكوس ربما تكون بمثابة الإشارة إلى أشياء مقبلة، ففي أبريل/نيسان أصدرت المفوضية الأوروبية بيان اعتراضات على شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم، متهمة إياها بانتهاك قوانين مكافحة الاحتكار في أوروبا من خلال تقسيم أسواق الغاز في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، ومنع إعادة البيع عبر الحدود، وإغلاق خطوط أنابيبها لصالح أطراف ثالثة.

وتواجه شركة غازبروم غرامة قدرها 10% من إيراداتها التي بلغ مجموعها 177 مليار دولار في عامها المالي الأخير، ولأنها تناضل بالفعل في مواجهة أسعار الغاز المنخفضة، والمنافسة المتزايدة، والآن هبوط الإنتاج فإن غازبروم سوف تواجه ضغوطا شديدة لسداد الأموال اللازمة من دون التضحية بمشاريع البنية الأساسية الملحة.

تتحمل روسيا أيضا ضغوطا متزايدة في ما يتصل بسلوك إجرامي مزعوم، والواقع أنها استخدمت مؤخرا حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن، سعت إلى إقراره ماليزيا وأوكرانيا وهولندا وأستراليا وبلجيكا يقضي بتأسيس محكمة جنائية لمحاكمة المسؤولين عن إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية الرحلة رقم 17 في يوليو/تموز 2014 فوق منطقة يسيطر عليها المتمردون في شرق أوكرانيا.

وتشير الأدلة التي جمعتها الدول الخمس إلى صاروخ أطلق من نظام الصواريخ الروسي بوك الذي كان يتولى تشغيله طاقم روسي.

وإذا تم إثبات أن روسيا مذنبة بإسقاط الطائرة الماليزية بأدلة قاطعة فسوف يتبين أن تصوير بوتين لبلاده باعتبارها متفرجا غير مشارك في الصراع الأوكراني كاذب.

وفي كل الأحوال يشكل استخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن اعترافا ضمنيا بالذنب، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب لهولندا -التي فقدت أكبر عدد من المواطنين في هذا الهجوم- للضغط من أجل فرض المزيد من العقوبات.

من ناحية أخرى، أعادت المملكة المتحدة في يوليو/تموز 2014 فتح تحقيق قانوني في تسمم ضابط أمن الدولة الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو الذي أصبح مواطنا بريطانيا بمادة البولونيوم في نوفمبر/تشرين الثاني 2006، وقد عقدت جلسات استماع عامة في لندن لتحديد “أين تكمن المسؤولية عن الوفاة”، وقد أولى التحقيق قدرا خاصا من الاهتمام بقانون روسي تم إقراره في مارس/آذار 2006 والذي يسمح للدولة بقتل أولئك من أمثال ليتفينينكو الذين يحكم عليهم بأنهم يشكلون تهديدا للأمن الوطني.

من المؤكد أن صدور حكم من محكمة بريطانية مفاده أن الحكومة الروسية أمرت أو حرضت على قتل ليتفينينكو من شأنه أن يخلف عواقب بعيدة المدى، فمثل هذا الحكم يضفي المصداقية على اتهامات جنائية أخرى مثل تفجير أربعة مبان سكنية روسية عام 1999 وقتل العديد من الصحافيين الاستقصائيين.

وهو أمر كفيل أيضا بتعزيز دعوة البرلمان الأوروبي إلى إجراء تحقيق دولي مستقل في مقتل زعيم المعارضة السياسية الروسي، وبوريس نيمتسوف نائب رئيس الوزراء الأسبق، ودعم العريضة المقدمة من أسرته لإجراء تحقيق دولي.

أخيرا، ورغم أن روسيا رسخت سيطرتها على شبه جزيرة القرم بحكم الأمر الواقع فإنها من المرجح أن تجد نفسها متورطة على نحو متزايد في تحديات قانونية لوجودها هناك، والواقع أن أي حكومة أو منظمة دولية ذات مصداقية لن تقبل وصف روسيا ضم شبه جزيرة القرم باعتباره عملا قانونيا ديمقراطيا من قبل شعب شبه جزيرة القرم.

وقد وصفت الأمم المتحدة ومجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ذلك التصرف بأنه عمل غير قانوني، وفي مايو/أيار وصفته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -بحضور بوتين- بأنه “تصرف إجرامي وغير قانوني بموجب القانون الدولي”.

في يونيو/حزيران قدمت أوكرانيا لروسيا حسابا من 17 جزءا بخسائرها الناجمة عن ضم شبه جزيرة القرم، والتي بلغت في مجموعها ما يقارب تسعين مليار دولار.

ومن الممكن أن تقدَّم فاتورة خسائر أخرى ناجمة عن الحرب التي تدعمها روسيا في أوكرانيا، والتي أسفرت عن مقتل ستة آلاف شخص وألحقت أضرارا واسعة النطاق بالبنية الأساسية.

ومن المؤكد أن روسيا سوف تجد نفسها غارقة في سنوات من المعارك القانونية في أماكن مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وسوف تعمل هذه التحديات القانونية -التي لا نهاية لها- على ردع الاستثمار عن شبه جزيرة القرم، وإلزام روسيا بدعم احتلالها لسنوات قادمة.

لقد بالغ بوتين في تقدير عناصر قوته، فبالإضافة إلى تعرضها للمسؤولية عن الأضرار الناجمة عن الصراع في أوكرانيا تواجه روسيا عقوبات قانونية تبلغ في مجموعها نحو 4% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل ما تنفقه على التعليم تقريبا.

وربما كان بوتين قادرا على وضع النظام القانوني في بلاده تحت سيطرته، ولكنه يظل عرضة للقرارات الدولية
غرد النص عبر تويتر
، ومع تشابك روسيا في النظام القانوني والمالي الدولي إلى الحد الذي لا يسمح لها بقطع العلاقات والتحول إلى دولة مارقة فمن المرجح أن يواجه رئيسها على نحو متزايد عواقب تصرفاته.


الجزيرة

تعليق واحد

  1. بوتين رجل غير مسئول يتعامل من منطلق القوة والتهور شخص لا يمكن الوثوق به واروبا لن ترجع لمربع الحرب معه ولكنها ستعزل هو وبلاده وسوف يصير منبوذ