تحقيقات وتقارير

أطفال على دروب المجهول : أبناء تم تجريدهم من شهادات الميلاد وأسماء الآباء

اندهشت كثيراً لمجموعة من طلاب قسم اجتماع بجامعة الخرطوم يصنعون عيد ميلاد افتراضي لأحد الأطفال بدار المايقوما… الشموع كانت تحترق والحلويات والجاتوهات (الطاعمة) كانت إجراءً شكلياً لطفل لايعرف تفاصيل ميلاده .. لا يعرف اسم الأب ولا اسم الأم.. ولا تاريخ الميلاد… ربما يدرك فيما بعد إنه ابن الشارع.. وإنه نتاج خطيئة ولدت بليل حالم ولما تضاعفت وكبرت تم قذفها في الشارع العام بعيداً عن أعين المارة طلاب الجامعات كانوا يبحثون عن الآثار النفسية وتجميل دواخل الطفل بطريقة اسعافية.. تمهد لهم السبيل.. وتعبد الطريق لرسالة الماجستير أو الدكتوراة.. ولكن سيأتي الموعد الذي تنكشف فيه الحقائق لذات الطفل الذي كان يلعب مزهواً باحتفالات أعياد الميلاد الكاذبة.. ويردد مع أقرانه (هابي بيرث دي تويو) وسنة حلوة ياجميل هكذا تبدو الأمور غامضة لأطفال فاقدي الأبوين ولعنة (لقطاء) ستطل تطاردهم في المستقبل وتملأ عيونهم بالخوف.. والمجهول.

مقولة.. ذكرها أحد الفلاسفة (جان جاك روسو) إن أجمل سمات الطفولة إنها تختزن لحظات الإشراق الأولى المفعمة بالضحكات والابتسامات
وإن أعظم قيمة لمعاني الطفولة هي تلك اللحظات البريئة الحلوة مع النشأة والتكوين وإن معايير التربية المغروسة في الحياة البضة هي التي تشكل سمات الشخصية والمكون الفعلي للكاريزما وصفات القيادة وكل خصائص الرجولة الأصيلة.
لذلك تبدو انعكاسات المراكز من تنشئة علمية واحساس بقيمة المجتمع الذي من حول الطفل وانسجامه مع أقرانه هي التي تخفف من وطء الكارثة المحتمل.

طفولة ضائعة.. وأرقام مخيفة:
أجريت دراسة حديثة من مركز الاحصاء العربي أبان أرقام مخيفة بأن نسبة الأطفال مجهولي الهوية في السودان تجاوز نسبة 04% وأرجع المركز أن التزايد المطرد ينجم عن عوامل اجتماعية واقتصادية، فالعوامل الاجتماعية تتمثل في حالة التفكك الأسري.. وتهتك النسيج الاجتماعي داخل الأسرة.. وارتفاع نسبة العنوسة والطلاق بصورة كبيرة الأمر الذي يساهم في ارتفاع حالات العلاقات غير الشرعية خارج نطاق الزواج أما العوامل الاقتصادية فتتمثل في ارتفاع أسعار كل مقومات الزواج من بناء عش الزوجية والشيلة والشنطة بالإضافة إلى التباهي بالمهور الغالية الأمر الذي يشكل عائقاً كبيراً أمام الشباب فيلجأون إلى التورط في علاقات مشبوهة يساعدهم على ذلك انعدام الوازع وغياب الضمير والبعد عن القيم الإسلامية.
وأبان المركز أن نسبة الأطفال المجهولين سترتفع في السنوات القادمة بارتفاع مؤشر الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأضاف المركز أن السودان ارتفع إلى مستوى الدول الأفريقية الأخرى مثل الصومال.. وتشاد.. وأفريقيا الوسطى مع ملاحظة أن هذه الدول ذات ثقافات غير إسلامية.
وقد سعت الوزارات السودانية ذات الصلة مثل وزارة الرعاية الاجتماعية إلى الاهتمام بالطفل وتنمية المجتمع وتفعيل الموجهات التي تقود إلى الاستقرار وقيام حملات توعية كبيرة للشباب حتى لاينزلقوا إلى مهاوي الضياع .. واثقال المجتمع بأعباء الخطيئة والسقوط الأخلاقي.

ثمة جوانب نفسية من الصعب اختراقها:
عثمان محمد سعيد أستاذ علم النفس ذكر في هذا الخصوص قائلاً :
إن تركيبة المجتمع السوداني المحافظ قد ساعدت كثيراً في حفظ التوازن الأسري.
وساهمت إلى حد ما في تخفيف نسبة الأطفال مجهولي الأبوين في السنوات الماضية ساعدتهم في ذلك الظروف الاقتصادية المستقرة نوعاً ما خصوصاً في فترة التسعينيات إلى نهاية 9002م ولكن بعد أن فقد المجتمع بوصلة الصمود.. ولم يستطع أن يتجاوز المنعطف الاجتماعي الذي انهارت معه كثير من القيم أهمها التسلسل النسبي في الأسرة بالشكل القديم وزادت نسبة المواليد غير الشرعيين بصورة كبيرة. البعد النفسي لهذه الظاهرة يتمثل بأن هؤلاء الأطفال المجهولين يهددون تنامي المجتمع القديم فيكونوا عرضة للضياع والهلاك والانحراف فتتجمع لديهم عقد متراكمة تجاه المجتمع فتتحول عندهم عقدة الذنب إلى انتقام من هذا المجتمع ويحملونه وزر ما اقترفته خطايا آبائهم ويشكلون مايعرف بانضمام جزء من هذا الكيان المنتظم فيشكلون لوبي ثأر ويمارسون السقوط الأخلاقي وفق ما تمليه عليهم دواخلهم المهزومة أصلاً ويكون نتاج ذلك إجرام على مستوى عالٍ وانحراف ومخدرات وهذه تعرف بمرحلة التغييب العقلي أو اللاوعي على المجتمع مسؤولية كبيرة تجاه هؤلاء لأن ايواءهم داخل حظائر اجتماعية مثل دار الرعاية لتهيئتهم لمجابهة المجتمع لايقضي على الكارثة من جذورها هنالك جوانب نفسية من الصعوبة اختراقها بمفاهيم الردع والعقاب وإنما تحتاج إلى جلسات علاجية نفسية هادئة لزراعة الثقة والأمان والاستقرار.

الاستقرار لا يوفره العقل لوحده:
رئيس قسم الاجتماع بجامعة شرق النيل اعتبر أن الأمر يعود إلى التربية والتنشئة القوية..
قائلا : إن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين تعتبر من افرازات المجتمع السالب وأنها تلقي بظلال سوداء على الممارسات الإنسانية، فالأسرة هي الأساس الذي تنطلق منه التربية وتعليم الأبناء ومايحدث داخل المجتمعات الفقيرة هو مجرد انعكاسات على التكوينات الضعيفة وأن الظروف الخانقة هي التي فرضت الانفلات وانعدام الرقابة وأعرف كثيراً من الأسر التي تعاني الشظف وعنت المعيشة تركت أبناءها يبحثون عن الرزق أينما كان وبالصورة التي يرونها مناسبة، فمايحل بطبقة الكادحين من أزمة مفتعلة هو الذي أوجد مبررات هذه الفوضى نظرية العقاب ساهمت جزئياً في هذا المنحى وانفصال الطبقة المترفة عن التكوينات هو الذي صنع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعبر الطبقتين تتفاوت المشكلات. أبناء الأثرياء يتجاوزون الأخلاق والأعراف بأموالهم وأبناء الفقراء يبحثون عن الأموال بشكل غير شرعي وعبر نقطة التقاء مماثلة تبرز الجريمة وتفشي الفواحش التي تكون نتاجها أطفال لقطاء حملوا أخطاء غيرهم وظلت هذه الخطايا عبئاً ثقيلاً يجسد مستقبلهم المظلم .الدولة كان لها دور كبير في هذه الظاهرة لأنها لم توفر أسباب الحياة الكريمة ولم تساعد الشباب على اكمال نصف دينهم بمنحهم فرص العمل المتاحة ليبنوا ذاتهم وفق أسس منطقية. البطالة التي انتشرت بصورة كبيرة كانت بمثابة الدافع السلبي للسقوط، فماذا يفعل الشباب وقد تكسرت أحلامهم وهم في ميعة الصبا كما أن انفتاح المجتمع على بعضه واختلاط الأولاد والبنات رسخ في الأذهان صعوبة تحقيق الأمنيات ولم يكن أمامهم إلا الانزلاق في هذه الهوة. ممارسات غير أخلاقية ثم الاختفاء من توابع الجريمة بالاجهاض.. أو رمي أطفال حديثي الولادة في قارعة الطريق.

وحتى مجتمع الجامعات الراقي لم يسلم من تبعات الأمر وقد قرأنا في الصحف السيارة عن وجود طفل حديث الولادة في حمامات إحدى الجامعات .. وهذا تأكيد على أن مفهوم الخطيئة لايتأثر بالنضج والوعي.. فطلاب الجامعات يعتبرون الطبقة الواعية المستنيرة التي يمكن أن تساهم بالارتقاء بالفضائل والقيم السامية .. وقد أكد هيجل عبر تجاربة الفلسفية أن الوعي والنضج لايعملان في المناخ الخانق .. بمعنى أن الاستقرار لايوفره العقل لوحده إذا لم يتصالح العلم والمال فإن النتيجة القاسية تقود إلى مايسمى بالمأساة.

صراخ طفل في عمق الفجيعة:
عثمان آدم الركابي.. من مواطني منطقة بحري.. يحكي أنه عاد ليلاً بعربته الخاصة في أمسية معتدلة تداعب نسماتها الوجوه بعطر حالم.. وأثناء دخوله إلى شارع الإنقاذ.. تناهى إلى سمعه صراخ طفل حديث الولادة.. الصوت اخترق مساماته.. وجعله يتوقف.. ويا لها من مأساة.. طفل ملفوف بقطعة قماش بيضاء وأنفاسه تتدفق في الأرجاء.. وعندما حمله بيديه توقف النبض في عروقه.. إنه طفل وسيم.. ما أن أحس بالدفء حتى توقف عن البكاء.. وحرك رجليه.. وهو يصنع ابتسامة فطيرة من تعابير وجهه الوضاء.. حمله إلى قسم الشرطة.. وقلبه يتفطر ألماً.. ومنظر الطفل الوسيم القادم من عمق الفجيعة يتراءى بين الحين والآخر.

ثم ماذا بعد!!
المصائر المنحوتة على الصخور لا تمل البكاء .. والمأساة تجسدها الحياة بمتقلباتها.. أفذاذ أكبادنا.. يجملون ديباجات الخطيئة ليبقى المستقبل مظلماً .. إن ماتوا.. وإن عاشوا.. هكذا تحمل التساؤلات المستعجلة أن هؤلاء الأطفال الأبرياء ظلمهم القدر مرتين .. مرة عندما حملوا بذرة لقاء فاسد… ومرة حينما تم تجريدهم من شهادات الميلاد.. واسماء الآباء.. ليبتسموا غير مدركين للعواقب وهم في لجة الطريق ملفوفين بقطعة قماش ناعمة..

عبدالمنعم مختار
صحيفة ألوان

تعليق واحد

  1. يا عبد المنعم مختار : لقد ذكرت بأن ( القدر قد ظلم هؤلاء الأطفال مرتين ) وهذه الجملة غير صحيحة من الناحية العقدية , لأن القدر لا يفعل , والذي يفعل المقدور هو الله , والله جل جلاله لا يظلم ولا ينسب إليه الظلم وكل فعله رحمة أو عدل ( إن الله لا يظلم الناس شيئاً , ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) وبالتأكيد أنك تقصد المجتمع , وهو يعني حدوث الخلل فيه مما أدى إلى هذه النتيجة والحق أنه لا ينبغي نسبة هذه النتائج إلى فئات أو طبقات معينة في المجتمع إلا بعد التأكد من ذلك فعلاً وبناء على دراسة حقيقية وهي أو هو أمر غير موجود , أو من الصعب القيام به , إذ إن الوليد أو الطفل الذي يوجد مطروحاً أو لقيطاً إنما يوجد وحده طبعاً , ولا يمكن نسبته إلى الحي الذي وجد فيه بل الأقرب أنه جيء به من حي ناء لإبعاد الشبهة !! كما أن من الصعب اسناد انتمائه إلى أي شخص دون أن تكون هناك قاعدة أو خريطة وراثية لكل مواطني السودان تتضمن نظام ( DNA) وهذا أمر لم يتحقق حتى في أوروبا المتقدمة !!