“غندور” في أفريقيا
لماذا طاف البروفيسور “إبراهيم غندور” وزير الخارجية الأسبوع الماضي وحتى أمس (الخميس) على عدد كبير من البلدان الأفريقية الصغيرة؟ ماذا وراء الزيارة؟ وهل السودان في حاجة لعلاقات مع دول مثل موزمبيق وبتسوانا وزامبيا ويوغندا وكينيا؟؟
خرج البروفيسور “إبراهيم غندور” الأسبوع الماضي إلى أفريقيا يمتطي دابته الخاصة (طائرة رئاسية) من نوع الطائرات التي يشتهي رؤساء بلدان أفريقية عديدة امتلاك أمثالها.. ومن نعمة الله على السودان أنه الدولة الأفريقية الوحيدة في منطقة شرق ووسط أفريقيا تملك أسطولاً من الطائرات الرئاسية، وحينما يحط ركب وزير خارجية أي بلد وهو على ظهر دابته الخاصة فإن تلك الدولة جديرة بالاحترام ولا يطوف وزراء الخارجية الأفارقة بالطائرات الخاصة إلا عدد قليل جداً ربما على أصابع اليد الواحدة.. جنوب أفريقيا.. الجزائر ومصر ونيجيريا وبقية الوزراء الأفارقة (يركبون) مع عامة مواطني القارة الفقيرة.. تلك مقدمات غير جوهرية في سياق قراءة أسباب ودواعي طواف البروفيسور “غندور” على أفريقيا الفقيرة حتى لا ينتظر منها تقديم شيء ينفع السودان اقتصادياً مثل بلدان الخليج العربي، ولكن تلك الدول لها تأثيرها السياسي والدبلوماسي على السودان من واقع عضوية تلك الدول في الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن والسلم الأفريقي الذي لا يزال يملك في أضابيره ملفات خاصة بالسودان، مثل قضية الحرب والسلام وتداعيات الحرب.. وما يمكن أن يهب على السودان من رياح جنوبية شرقية جافة ومثيرة للغبار والأتربة حتى في فصل الخريف.. وإذا كانت أفريقيا بفقرها وعوزها وضعفها قد وقفت إلى صف السودان سنداً وعضداً في محنه التي لا تنقضي وأزماته التي تتجدد من قرارات أممية بالتدخل الإنساني في شؤونه الداخلية، إلى قرارات المحكمة الجنائية بإصدار أوامر بالقبض على رئيس السودان لتقف أفريقيا بلا استثناء في وجه الغرب وتسقط دعاوى المحكمة الجنائية، بل الآن هناك مقترحات يتم تداولها بين العواصم الأفريقية لابتعاث وفد أفريقي لمجلس الأمن للمطالبة جهراً بتجميد القرار الخاص بملف الجنائية من المحكمة إلى المجلس وطي تلك الصفحة نهائياً.. في ذات الوقت فإن جهات دولية تخطط سراً لتمرير قرار من مجلس السلم والأمن الأفريقي بغرض تدخل دولي إنساني بموجب الفصل السابع بدعوى تقديم الغذاء والاحتياجات الإنسانية لضحايا النزاع في إقليم كردفان الجنوبي والنيل الأزرق.. فيما تسعى أيضاً منظمات طوعية للدعوة لفرض حظر الطيران في مناطق النزاعات بما في ذلك دارفور من أجل إحياء التمرد من جديد وبعث الروح في جسده بعد أن وهن وضعف وكاد أن تذروه الرياح!!
في مثل هذه المناخات المضطربة تبدو الحاجة لتحرك دبلوماسي فاعل ونشط لدرء مخاطر قد لا ينظر إليها البعض ممن في عيونهم رمد السلطة وغشاوة الانتصار الدبلوماسي والسياسي على الصعيد العربي وخاصة بلدان الخليج التي تدفقت دولاراتها على خزائن السودان، كما جاء على لسان وزير الدولة بالمالية د. “عبد الرحمن ضرار” وهو يقول إن ملياراً من الدولارات ترقد الآن كودائع في خزائن السودان قدمتها المملكة العربية السعودية للخرطوم بعد عودة العلاقات مع دول الخليج إلى طبيعتها، بل أفضل من كل سنوات عهد الإنقاذ.. عطفاً على أموال دولة قطر التي ظل السودان ينتفع بها.. وقطر هي الدولة العربية الوحيدة التي ما انقطع دعمها السياسي ولا عونها المالي للسودان حتى في أيام عسرته الشديدة ووهنه وضعفه حتى نهض على ساقيه.. لكن المال الخليجي قادر على حل مشكلات السودان وما أكثرها ولكنه غير قادر على حل مشكلاته السياسية، لذلك لا غنى عن علاقات جيدة مع أفريقيا السوداء. ولا يعني انفصال الجنوب وذهابه لسبيله أن دولاً مثل يوغندا يقدم رئيسها “يوري موسيفيني” نفسه كزعيم لأفريقيا الشرقية والوسطى خاصة بعد رحيل “ملس زناوي” وانشغال كينيا بأزمات الداخل و(تغليب) السودان لخيار الانتماء عربياً على الفضاء الأفريقي.. ولذلك الدول الأفريقية التي ينظر إليها الكثير من السودانيين بأنها دولاً لا قيمة ولا وزن لها هي ليست كذلك، رواندا التي عاشت سنوات حرب وصراعات اثنية مقيتة تتعافى الآن وتنهض وربما تجاوزت السودان في السنوات القادمة. وتشاد التي كان غالبية أهل بلادنا يتندرون بها تحتضن اليوم أكثر من (40) ألف لاجئ من دارفور وتقاصرت همة كل المسؤولين بما في ذلك سفارة محافظة (بيضا) التي تحتضن أهلنا المساليت والمرايت من غرب دارفور، وقد تفقدهم السلطان “سعد بحر الدين” سلطان دار مساليت لأيام ولم تجد زيارته حتى تغطية في وسائل الإعلام التي تسمى قومية والمشغولة بثلاثية (المديح والطنبور والحقيبة). وقد ذهب “سعد الدين” بصفته رئيس المجلس التشريعي للسلطة الإقليمية بدارفور، و”سعد بحر الدين” ظل الاختيار يتخطاه ولو كان المؤتمر الوطني يعقل لاستثمر سياسياً في “سعد بحر الدين” ورفعه لمقام الوالي.
“غندور” في “كمبالا” وموزمبيق وبتسوانا من أجل علاقات سودانية أفريقية وليس من أجل المصالح الاقتصادية الزائلة.. ويملك أستاذ الطب بجامعة الخرطوم ونقيب العمال السابق خبرة تؤهله لإحداث اختراق حقيقي في جدار العلاقات مع أفريقيا.. د. “غندور” ينتهج سلوكاً أقرب لمنهج الغرب في التعاطي مع الأزمات، لا ينكر التهم الموجهة للسودان على إطلاقها ولا يوصد أبواب الحلول.. ويبدو دائماً أن حكومته على استعداد لفعل شيء إزاء أي شيء!!
فقد انطوت حقبة دبلوماسية اللغة الناعمة.. والبلاغة والفصاحة وقد كان السودانيون في سنوات خلت يعتقدون أن خطاب الراحل “محمد أحمد المحجوب” في الأمم المتحدة قد أثار إعجاب الوفود لفصاحته وبلاغته.. بيد أن زمان الفصاحة والبلاغة قد انطوى لغير رجعة وبزغت شمس حقبة الواقعية في التعاطي مع الأزمات..جاء وزراء ورؤساء حكومات قادرون على كسب الصداقات لشعوبهم من غير فصاحة لسان وبلاغة لغة ومفردات منمقة.. وعرف العالم الكثير عن السعودية من خلال “عبد العزيز التويجري”.. وقدم د. “عبد المقالح” صورة لليمن أزهى من صورته القديمة.. وسوق “محمد بن عيسى” في المغرب لبلاده حتى كادت أن تنال شرف احتضان كأس العالم لولا مؤامرات بعض الدول العربية. ووزير خارجية السودان بروفيسور “غندور” شخصية تملك القدرة على الإقناع لكنه في حاجة لدعم وسند و(دفر) عربته حتى لا تتوحل في الرمال مثل عربة السائق الشهير “حسين عوض الله” الذي كان من أشهر وأمهر سائقي اللواري في نجوع كردفان.. وفي إحدى رحلاته بين النهود والأبيض توحلت سيارته في رمال منطقة (أم رماد) التي تعتبر من أكبر قرى البديرية الدهمشية.. بعد قرية العيارة التي بها مقر محكمة ود زاكي الدين.. وجاءت قريحة نساء القرية بأغنية دلوكة تعاتب شباب القرية الذين لم يساعدوا “حسين عوض الله” في إنقاذ السيارة من الوحل وجاءت كلمات الأغنية تقول:
حسين عوض الله كب الجاز
أنا برمي ليك الصاجة
شباب أم رماد بقى فراجة
وحتى لا تصبح أطراف حكومتنا المعنية بالعلاقات الخارجية مثل شباب أم رماد فإن عربة “غندور” تحتاج (لدفرة) ودعم وكل (جمعة) والبلاد بخير.