أنس عمر وشرق دارفور
غبطت صحيفة المجهر السياسي والأخ الصحافي الشاطر يوسف عبد المنان على الحوار القيم الذي أجراه مع والي شرق دارفور الجديد الشاب أنس عمر، فقد اطمأننت كثيراً بعد إطلاعي على إجاباته على أنه تمكن من الإمساك بتلابيب المشكلة الرئيسية للولاية الملتهبة بالصراعات القبلية، وأعني بها المعضلة الأمنية التي أحالت الولاية خلال السنوات الماضية إلى ساحة حرب مات جراءها المئات وشرد الكثير من مواطنيها.
لأنس عمر مكانة خاصة في نفسي وأسرتي، فهو الذي وارى مع آخرين جثمان ابننا أبي بكر الثرى عقب استشهاده في معركة جبل ملح، وهو الذي زامل ابني الأكبر محمد في الجامعة وترافقا بعدها في سوح الجهاد (متحرك الأنفال) في منطقة كاجو كاجي، ولطالما خاض أنس غمار المعارك السنوات الطوال وكان خطيباً مفوهاً خلال المرحلة الجامعية، وظل وفياً لعلاقته مع الأسرة حتى اليوم، ولذلك أشفقنا عليه من أن تعصف تلك الولاية الملتهبة بالصراعات خاصة نزاع الرزيقات والمعاليا، والتي سميتها في مقالات سابقة بمعارك داحس والغبراء التي ضربت تلك الولاية.
ليت الأمر اقتصر على تلكما القبيلتين، فقد شهدت ولاية شرق دارفور معارك قبلية أخرى، بل إن ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية من معارك دامية بين قبيلتي الجموعية والهواوير مات جراءها عدد من المواطنين في ولاية الخرطوم التي يفترض أنها انصهرت فيها كل القبائل السودانية لتكون نسيجاً متماسكاً ووحدة ثقافية وحضارية واحدة يكشف عمق الأزمة السودانية، وكيف أن السودان أبعد ما يكون من أن يصبح وطناً متماسكاً يجتمع أبناؤه على هوية مشتركة وولاء جامع يلتف حوله مواطنوه ويقدموه على ولاءآتهم الصغيرة، فقد تفشت القبلية وتعمقت بدلاً من أن تخبو وتندثر وتفسح المجال للولاء الوطني الجامع.
في مناخ اجتماعي ملتهب وغير مواتٍ كهذا تولى ابننا أنس عمر أمر ولاية شرق دارفور ويا له من تحدٍّ، ويا له من ابتلاء .
لكي تتخيلوا حجم التحدي قرائي الكرام استمعوا إلى أنس وهو يحدثكم كيف كان حال الولاية عشية توليه منصبه فقد كان من يشغل منصباً دستورياً من أبناء المعاليا لا يستطيع دخول الضعين، كما أن الرزيقي لا يستطيع دخول عديلة وأبوكارنكا الواقعة في مناطق المعاليا.. الحكومة منقسمة على نفسها.. المجلس التشريعي معطل لا يؤدي عمله.. الزراعة توقفت وقل الإنتاج.. في كل ولايات السودان – حسب أنس عمر- تفتح الجامعات والمعاهد العليا أما هنا فتفتح المراكز الصحية.. مؤسسات الدولة معطلة والتدهور مريع.
ماذا فعل أنس عمر ليصلح من تلك الحالة المأساوية؟.
لقد حدد الرجل أولويته القصوى في إشاعة السلام وإحداث تراضٍ بين مكونات الولاية وتطبيع الحياة المدنية وعقد مؤتمرات المصالحة.
حرص أنس عمر على اختيار كل الوزراء من خارج الولاية ولكنه لم يطبق هذه السياسة في اختيار المعتمدين وليته فعل فالمنطق الذي جاء به من خارج الولاية كان ينبغي أن يسود في تعيين المعتمدين لأنهم الحكام الفعليين الذين ينبغي أن يكونوا قوامين بالقسط بعيداً عن الانحياز لأهليهم في المناطق التي يحكمون.
لتوفير الأمن وإشاعة السلام تم نشر لواء من الجيش والشرطة والأمن وتم اختيار عناصر تلك القوات من خارج المكون المحلي مع استبعاد أبناء القبيلتين الرزيقات والمعاليا، وطال الحزم كل من يتفلت وقبض على 36 عنصراً من عُتاة المجرمين ومن بينهم من تورط في القتال بين القبيلتين وتم منع (الكدمول) الذي يخفي الوجه واعتبر من مظاهر التمرد سيما وأنه من التقاليد الوافدة من خارج البلاد، ومنعت العربات ذات الدفع الرباعي كما منع ارتداء الزي العسكري وحمل السلاح لغير العسكريين.
هذا قليل من كثير يعكف عليه الوالي الجديد الذي تعهد بفرض هيبة الدولة خلال ستة أشهر.
أقول إن تلك الخطوات التي اتخذها الشاب الثائر أنس عمر كان لا بد منها، وأثق في أنها ستطفئ الحريق لكنها ليست كافية لنزع فتيل التوتر بلا رجعة، ولا بد للدولة من معالجات تقطع دابر المشكلة من جذورها ليس بالنسبة لنزاع الرزيقات والمعاليا فحسب، وإنما لكل النزاعات القبلية التي أصبحت أكبر مهددات الأمن القومي، ويكفي دليلاً على ذلك أن كل تمردات دارفور تقوم على بعد قبلي هو من أكبر عوامل تخلف السودان وتقهقره بين الأمم السودان، وكذلك من أكبر معيقات توحد أبناء الوطن على هوية مشتركة.