منى عبد الفتاح : البُعد الجديد في العلاقات الأميركية الأفريقية
تحولات في العلاقات الإستراتيجية الأميركية خطة بديلة لجنوب السودان
رغم مطالبة الرئيس الأميركي باراك أوباما في جولته الأفريقية الأخيرة أواخر الشهر الماضي يوليو/تموز، بأن تأخذ العلاقات بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية “بُعدا جديدا”، فإنه لا ينبغي أن يؤخذ هذا الرجاء بمعزل عن سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه القارة السمراء.
تحولات في العلاقات
مع حصول الدول الأفريقية على استقلالها من الاستعمار الأوروبي في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن العشرين، حلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي محل أوروبا في ظل نظام القطبية الثنائية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.
“مع نهاية الحرب الباردة تراجعت أهمية أفريقيا بالنسبة للغرب بشكل عام، وتناقصت معدلات المعونات والقروض الموجهة إليها، مما شكل قلقا في الداخل الأفريقي على مستقبل القارة حتى إعلان بوش تشكيل “النظام العالمي الجديد””
وطوال ذينك العقدين، حرصت الولايات المتحدة على عدم التورط في صراعات القارة، خاصة في ظروف مرورها بحركات التحرر والاستقلال، ولكن جاء عقد السبعينيات بتحرك الولايات المتحدة حماية لمصالحها خاصة بعد سقوط نظام هيلاسلاسى الموالي للغرب في إثيوبيا، وفشلها في دعم أنصارها في الحرب الأهلية الأنغولية عام 1975التي انتهت بانتصار الموالين للاتحاد السوفياتي.
في نهاية الستينيات ظهرت نظرية التبعية التي عملت على تأرجح أفريقيا بين رأسمالية أميركا وشيوعية الاتحاد السوفياتي. والسبب الرئيسي في استعداد أفريقيا لمواصلة تبعيتها للدول الكبرى هو إرثها الاستعماري فمرت بالعديد من الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى الناجمة عن الاضطرابات السياسية.
ثم نشأ فيما بعد مصطلح التبعية كمصطلح اقتصادي وارتبط بمفهوم السيطرة كأداة رئيسة تمارسها دول المركز الذي تمثله الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، والأطراف التي تمثلها مجموعة الدول النامية التي اندمجت في النظام العالمي وأصبحت خاضعة لهيمنة المركز. كما يفسر المصطلح في ذات الوقت واقع التخلف الذي ترزح تحت نيره الدول النامية.
في منتصف الثمانينيات عمل الرئيس الأميركي رونالد ريغان على مساندة الإصلاحات الإدارية التي قام بها النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ولكنه في نفس الوقت كان يدين العقوبات الاقتصادية التي كانت تنادي بها أغلب دول العالم ضد نظام جنوب أفريقيا.
كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وأفريقيا هي التي بُني عليها واقع تجدد مفهوم العولمة وتأثيراتها في الحياة المادية، حيث يرى أود أرني ويستاد -المؤرخ النرويجي المتخصص في فترة الحرب الباردة وفي التاريخ المعاصر لشرق آسيا- أن فترة التسعينيات قدمت مفهوم العولمة بدلا عن “العالم الثالث”، أو بشكل أكثر دقة “الأمركة” نظرا لأن الأسواق في جميع أنحاء العالم، والأسواق المالية بشكل خاص ارتبطت ارتباطا وثيقا بتوسيع الاقتصاد الرأسمالي العالمي مع الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة المتبقية.
ووفقا لذلك سادت النزعات الاستهلاكية والديمقراطية الليبرالية بوصفهما القيم الأساسية للطبقة الوسطى العالمية الناشئة، فحتم ذلك الالتزام برأسمالية السوق الحرة.
مع نهاية الحرب الباردة تراجعت أهمية أفريقيا بالنسبة للغرب بشكل عام، وتناقصت معدلات المعونات والقروض الموجهة إليها، مما شكل قلقا في الداخل الأفريقي على مستقبل القارة حتى إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش عن تشكيل “النظام العالمي الجديد”.
شهدت العلاقات الأميركية الأفريقية تبدلا في بدايات التسعينيات حيث ربطت الولايات المتحدة في إستراتيجيتها تجاه أفريقيا بين تقديم المعونات ومدى التزام الدول الأفريقية بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان فيما عُرف بمصطلح “المشروطية السياسية”، والذي خفَتَ في العقد الأخير في ضوء تنافس دولي جديد.
ظهرت الإستراتيجية الأميركية مرة أخرى في منتصف التسعينيات، وأعادت الاهتمام بالقارة اقتصاديا، حيث دفع بعض المفكرين الإستراتيجيين الأميركيين بالقول بأن استمرار الإدارة الأميركية في ترك الفرص الإستراتيجية التي تتمتع بها أفريقيا يعتبر خطأ كبيرا، ودعوا للتركيز على الفرص الاقتصادية الواعدة بأفريقيا والتي أصبحت في تنام وتزايد مستمر. ويبقى العامل الحاسم هو توجه الإدارة الأميركية في البحث عن مصادر جديدة للطاقة ووضع اليد عليها.
في سبتمبر/أيلول 1993 أُعلن عن ميلاد أنموذج إستراتيجي أميركي جديد تجاه القارة هو “سياسة التوسع” ليحل محل “سياسة الاحتواء” الذي أعلنه السياسي والمفكر الأميركي “جورج كينان”، ويعني “التوسع” انتشار الديمقراطية واقتصاد السوق الحر على الصعيد الشامل مكان الاستبداد والاقتصاد الموجه.
ويعتبر هذا المسار هجوميا بالدرجة الأولى ويأخذ البعد الاقتصادي، على عكس “سياسة الاحتواء” الذي كان يعد برنامجا دفاعيا يأخذ البعد العسكري، ويشمل “التوسع” القارة الأفريقية من ناحية دفعها للانخراط في اقتصاد السوق والليبرالية، وطرد بقايا الاستبداد والاقتصاد الموجه وفق الرؤية الأميركية، ولكن تظل المهددات متمثلة في النزاعات والحروب الأهلية.
“رغم سيادة الاعتقاد القائل بأن سياسة المعونة الأميركية وتقديم المساعدات الاقتصادية المستقبلية تخضع بدقة لمعايير الأداء السياسي في أفريقيا، فإن أميركا لم توقف مساعداتها المشروطة بالتحرر السياسي، مما يتعذر معه قياس واقعية هذا الاقتران بين المعونات وتنفيذ الشروط”
عند مجيء الرئيس الأميركي بيل كلينتون، كشف عن مبدأ “الشراكة من أجل النمو والفرص في أفريقيا” لتعزيز المزيد من التجارة والاستثمار في المنطقة، حيث أوصى مجلس العلاقات الخارجية بتعزيز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة تجاه أفريقيا بشكل أكثر فعالية، لأنها واجهت قصورا عما هو مطلوب. وقد أوصت فرقة العمل بنهج أكثر شمولا يدمج السياسات في مجالات المساعدات الخارجية والتجارة والاستثمار، وتخفيض الديون.
الإستراتيجية الأميركية
تستهدف الإستراتيجية الأميركية في أفريقيا الوصول بلا إعاقة إلى الموارد والبترول والأسواق، فقد كان من المتوقع أن يزداد الاعتماد الأميركي على البترول الأفريقي لتوفير ربع الاحتياجات الأميركية بنهاية 2015.
التغيير الجدير بالاعتبار في زيارة أوباما الأخيرة هو أن أهداف التدخل الأميركي في أفريقيا فيما قبل تم بالإضافة إلى ما أُعلن عنه من التوسع في التجارة والاستثمار الأميركي في دول المنطقة لدفع التنمية الاقتصادية وتحسين الإرادة لدى شعوبها، ومحاربة انتشار مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) والأمراض المعدية الأخرى التي تهدد سكان القارة، حماية البيئة وإنهاء الحروب، فقد كان هناك تحرك نحو ترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد واحترام القانون.
أما جولة أوباما الأخيرة في أفريقيا فقد أتت ترجمة للاتجاه نحو تغيير الرؤية الأميركية فيما يتعلق بالمشروطية السياسية ولكن بالقدر الذي يفي بمصالح أميركا في أفريقيا.
ورغم سيادة الاعتقاد القائل بأن سياسة المعونة الأميركية وتقديم المساعدات الاقتصادية المستقبلية تخضع بدقة لمعايير الأداء السياسي في أفريقيا، فإن الولايات المتحدة لم توقف مساعداتها المشروطة بالتحرر السياسي، مما يتعذر معه قياس واقعية هذا الاقتران بين المعونات وتنفيذ الشروط. وهو عكس ما كان يتم تطبيقه من مرونة في منح المساعدات.
وهذا الاتجاه بدأه أوباما نفسه، فقد ركز منتدى الأعمال في القمة الأميركية الأفريقية في أغسطس/آب 2014م على تحويل الاهتمام الأميركي من مجرد النظر إلى القارة الأفريقية على أنها منطقة حروب وأوبئة إلى قارة تتمتع بفرص اقتصادية واستثمارية هائلة أغفلتها الولايات المتحدة طويلا.
ثم أعلن أوباما في ذلك اللقاء عن تعهدات لشركات أميركية بالاستثمار في أفريقيا بما قيمته 14 مليار دولار، ويعتبر ذلك مواصلة لمبادرات أميركية بدأتها إدارته في 2013.
هذا التغيير في السياسة الأميركية تجاه أفريقيا في بند احتل أهمية كبرى لديها وهو بند المشروطية السياسية، مرده إلى دخول الصين كلاعب جديد في أفريقيا يمكن أن يحقق لأفريقيا التنمية وتستفيد من استثماراتها دون تبعات سياسية، بيد أن هذا موضوع شائك آخر.
خطة بديلة لجنوب السودان
مع علم أوباما أن اجتماعه في محطة جولته الثانية أديس أبابا، لن يؤدي إلى انفراجة كبرى لوقف الحرب الأهلية في جنوب السودان والمستمرة منذ ديسمبر/كانون الأول 2013، إلا أنه قام بوضع ما أسماه “بالخطة البديلة” لجنوب السودان والتي يمكن أن تتضمن فرض عقوبات أو غيرها من الإجراءات العقابية، إذا لم يتوصل الطرفان المتحاربان في البلاد إلى اتفاق سلام بحلول منتصف أغسطس/آب من هذا العام 2015.
وعلى مدى 35 عاما، كان السودان مسرحا للسياسات النفطية الأميركية والآسيوية، ليس فقط بسبب الحرب بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وإنما أيضا لتأثير الأزمات المالية العالمية والإقليمية على قطاع النفط.
“كان لأميركا الدور الأبرز في التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005 وقسمة الثروة والسلطة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. وقبل ذلك تدخلت حينما اصطدمت مفاوضات نيفاشا بعقبة تبعية منطقة أبيي الغنية بالنفط ”
كان تأثير المعارك على إنتاج النفط في السودان ملحوظا، حيث تضمن دخول شركات النفط الكبرى الأميركية في سبعينيات القرن الماضي (شيفرون) وخروجها في الثمانينيات ثم حلت محلها الشركة الوطنية الصينية (CNPC). ولكن تعرضت هذه الشركات لخسارة بعد إغلاق حكومة جنوب السودان إنتاجها من النفط.
كانت الولايات المتحدة طرفا فاعلا في التوقيع على الاتفاق الإطاري في ماشاكوس تحت مظلة مبادرة الإيغاد في 20 يوليو/تموز 2002، لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان ومهدت لمنح الجنوب حق تقرير المصير.
ثم كان للولايات المتحدة أيضا الدور الأبرز في التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005 وقسمة الثروة والسلطة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. وقبل ذلك تدخلت حينما اصطدمت مفاوضات نيفاشا بعقبة تبعية منطقة أبيي الغنية بالنفط إلى الجنوب أم إلى الشمال.
وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل لم تتغير سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان، ولكن دخلت طور تشكيل ساهم وفقا لبعض الضغوط إلى انفصال جنوب السودان عام 2011.
هذا الدور السياسي للإدارة الأميركية وتركيزها على إنهاء الحرب وحل إشكاليات الجنوب والمناطق الغنية بالنفط قبل وبعد الانفصال ومساهمته فيه، في ظل تركيز الصين على عنصر الإنتاج، مهد لحصول الولايات المتحدة على قاعدة في دولة الجنوب بعد الانفصال، ما يؤهلها للعودة مجددا للتنقيب عن النفط.
إن البُعد الآخر لزيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أفريقيا يأخذ منحى واقعيا غير ذلك العاطفي، وذلك بارتكاز أجندته على أن المصلحة الاقتصادية الأميركية هي الركيزة الأساسية.
وعكس ذلك بشكل كبير حرص الإدارة الأميركية في هذا الوقت على التأكيد على أن مصالحها في أفريقيا تحتوي على: ضمان الأمن والدفاع عن السلام العالمي ضمن منظومة المجتمع الدولي، وضمان الحصول على النفط من أفريقيا وتأمين نفط الخليج والمنافذ الإستراتيجية.