عالمية

تركيا وداعش.. هل بدأت الحرب حقا؟

بينما ظل دور تركيا في الحرب على تنظيم الدولة مقتصرا على إسناد لوجستي ومنع لتسلل المقاتلين إليها وإلى جبهة النصرة عبر الأراضي التركية، يبدو أن التصعيد التركي الأخير مؤشر لرفع أنقرة مستوى انخراطها في الحرب.

فما كادت تمضي أيام قلائل على العملية حتى شنت المقاتلات التركية غارات على بعض الأهداف التابعة للتنظيم في سوريا، في تتويج لافت لتحركات تركية حذرة كانت قد لاحت قبل فترة للتجاوب مع ضغوط التحالف الدولي لحمل أنقرة على المشاركة بشكل أعمق في الحرب ضد “داعش”، إذ قبلت بتدريب عناصر من المعارضة السورية المعتدلة على أراضيها توطئة لضمهم إلى صفوف القوى المحاربة للتنظيم الإرهابي، كما بدأت في مداهمة معاقل تابعة للتنظيم داخل تركيا ومنعت متطوعين كثرا من عبور أراضيها بغية الوصول إلى قواعده في سوريا.

غير أن معطيات أخرى عديدة بدت لتدحض هذا التصور.
أولها، أن التحرك العسكري التركي لم يأت عقب عملية “سروج” مباشرة وإنما بعد مقتل رجال شرطة أتراك على أيدي مقاتلي حزب العمال الكردستاني بعدها بثلاثة أيام ردا على سقوط عشرات الأكراد في العملية، ما يعني أن أنقرة ما زالت تعتبر أن الخطر الأكبر الذي يتهدد تركيا هو الخطر الكردي وليس “الداعشي”، خصوصا بعدما سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، على مدينة تل أبيض بالتزامن مع تجدد العمليات الإرهابية لحزب العمال داخل تركيا بعد تعليق هدنته التي أبرمها مع أنقرة بموجب محادثات سلام كان أردوغان قد دشنها مع الحزب في عام 2012، بعد الهجوم التركي على معاقل للحزب شمالي العراق.

“التحرك العسكري التركي لم يأت عقب عملية “سروج” مباشرة وإنما بعد مقتل رجال شرطة أتراك على أيدي مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ما يعني أن أنقرة ما زالت تعتبر أن الخطر الأكبر الذي يتهدد تركيا هو الخطر الكردي وليس “الداعشي””

وقد اكتسبت عمليات الحزب الكردستاني هذه المرة زخما مهما بعدما أضحى له ظهير سياسي يتمثل في حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي بات ممثلا في البرلمان بحوالي ثمانين مقعدا، حيث دعا الحكومة إلى استئناف عملية السلام مع الكردستاني، كما أدان التصعيد التركي الأخير ضد الحزب الكردستاني، محذرا من أن يكون مجرد غطاء أو مبرر لنسف عملية السلام مع أكراد تركيا.

وفي ذات السياق، أكد كل من أردوغان وداود أوغلو أن بلادهما لا تفرق بين “داعش” و”الكردستاني” وتعتبرهما سويا منظمتين إرهابيتين ستتعامل معهما بنفس النهج، كما شددا على أن الضربات العسكرية الحالية لا تستهدف “داعش” فقط وإنما ستتواصل لتشمل تنظيمات تهدد الأمن القومي التركي كأحزاب التحرير، الجبهة الشعبية الثورية، متمردي حزب العمال الكردستاني شمالي العراق وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي أعلن في يناير/كانون الثاني من عام 2013 ما يشبه الحكم الذاتي على الحدود السورية التركية بإيعاز من الأسد، والذي تعتبره أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف تركيا وأوروبيا وأميركيا منظمة إرهابية.

ثانيها: افتقار مساعي واشنطن والتحالف الدولي لمحاربة “داعش” وتقويضه إلى الجدية والحزم، فبعد تقاعس وتراخ في محاربته ثم إنزال أسلحة ومعدات غير ما مرة جوا لمقاتليه لم يتورع الجنرال راي أوديرنو، رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي، عن الإعلان قبل أسبوعين أن هزيمة “داعش” تحتاج إلى مدة تتراوح ما بين عشرة وعشرين عاما.

ثالثها: افتقاد أية عمليات عسكرية تركية في سوريا -بما فيها محاربة “داعش”- لتأييد عريض داخل تركيا. كما أن الحكومة لا تعتبر عملياتها الحالية في سوريا انخراطا كاملا في الحرب على “داعش” بقدر ما هي رد فعل اضطراري على عملية “سروج ” التي نفذها “داعش” في تركيا.

وعلى المستوى غير الرسمي، ما برحت قطاعات تركية واسعة تطالب بعدم التورط العسكري في سوريا أو سواها، كما يحمل أتراك كثر سياسات أردوغان وحكومة داود أوغلو مسؤولية الإرهاب الذي داهم بلادهم.

وبينما رأت المعارضة التركية أن الانتفاضة العسكرية والأمنية ضد “داعش” داخل تركيا وعلى الحدود السورية جاءت متأخرة جدا رغم أهميتها، هرعت تباشر ضغوطها لحمل الحكومة على مراجعة سياستها الخارجية التي تعتبرها سببا لوقوع تركيا في براثن الإرهاب، محذرة الحكومة من الانجرار نحو حرب استنزاف طويلة الأمد، ومن إمكانية استغلال الرئيس وحكومة العدالة الأوضاع الأمنية المتدهورة ضمن حملة الانتخابات المبكرة التي باتت شبه أكيدة مع تراجع احتمالات تشكيل حكومة ائتلافية.

رابعها: تمسك تركيا بسياسة رفض الدخول في مواجهة مع “داعش” طالما أن شروطها بهذا الصدد لم تنفذ، مع إبدائها شيئا من المرونة تجلت في إمكانية اتخاذ بعض الإجراءات بهذا الخصوص إذا ما تقاضت مقابلا مجزيا، أو اضطرت لذلك تحت وطأة ضغوط لا تحتمل، وذلك على غرار ما جرى في معركة عين العرب (كوباني) التي كانت بمثابة أول اختبار عملي لحقيقة الموقف التركي من “داعش”.

“تفتقد أية عمليات عسكرية تركية في سوريا -بما فيها محاربة “داعش”- لتأييد عريض داخل تركيا. كما أن الحكومة لا تعتبر عملياتها الحالية في سوريا انخراطا كاملا في الحرب ضد “داعش” بقدر ما هي رد فعل اضطراري على عملية “سروج ” التي نفذها “داعش” في تركيا”

فمنذ الساعات الأولى لتغلغل “داعش” في عين العرب (كوباني) التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن الحدود التركية السورية، نقل عن أردوغان مقولة أن تسليم عين العرب (كوباني) لـ”داعش” أفضل كثيرا لتركيا من بقائها غنيمة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.
وبناء عليه، ظلت تركيا تراقب المعركة عن بعد رافضة السماح للبشمركة العراقية وأعضاء حزب العمال الكردستاني بالعبور إلى سوريا لمنع سقوط كوباني، متوخية دفع الأكراد لطلب المساعدة الأمنية من تركيا وفقا لشروطها المتمثلة في تخلي حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي عن خطط الحكم الذاتي في سوريا وانضمامهما إلى التحالف المناهض للأسد خاصة بعدما سيطر حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي على مناطق كردية في عفرين وكوباني والجزيرة في شمال سوريا، وأعلنوها مقاطعات كردية في يوليو/تموز 2012.

وبمرور الوقت، اضطرت أنقرة لتغيير موقفها من معركة عين العرب (كوباني) مخافة أن يفضي سقوط كوباني إلى تهديد استقرار تركيا جراء نزوح حوالي ثلاثمئة لاجئ كردي إضافي إلى أراضيها، ما قد يؤلب أكراد تركيا ضد أنقرة، كما جاء ذلك بعدما التقى الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا دانيال روبنشتاين في باريس صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وتباحثا بشأن محاربة “داعش”، الأمر الذي أجج مخاوف أنقرة من احتمالات دعم واشنطن للتطلعات الانفصالية والاستقلالية للحزب الكردي السوري.

وبينما أدان أردوغان تقديم التحالف الغربي دعما تسليحيا للحزب، مؤكدا للرئيس الأميركي أن أنقرة تعتبره تنظيما إرهابيا كحزب العمال الكردستاني، خرجت الناطقة باسم الخارجية الأميركية في حينها لتقول إن أميركا لا تعتبر الحزب الكردي السوري إرهابيا، كما انهالت بالتزامن الضغوط الغربية على أنقرة لحملها على السماح للأكراد السوريين وقوات البشمركة بالدخول إلى كوباني لطرد “داعش” فضلا عن تدريب ألفي عنصر من المعارضة السورية على أراضيها لذات الغرض بالتنسيق مع الأميركيين.

واليوم اضطرت تركيا لتوجيه ضربات ضد “داعش” بعد حادث سروج، لكن تحركها بهذا المضمار جاء محسوبا ومحدودا وغير مؤثر، مقارنة بذلك الذي يتم بشكل متواصل ومكثف ضد معاقل وأتباع حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، وليس أدل على ذلك من أنه لم يقابل برد -حتى الآن على الأقل- من جانب “داعش”.

ولعل العمليات الأمنية والعسكرية المحدودة التي تبنتها أنقرة ضد “داعش” قد استهدفت تحقيق حزمة من الأهداف، أبرزها: امتصاص غضب التحالف الدولي وإيران وأكراد تركيا بعدما مارس الأول ضغوطا عليها، وهددت الثانية بتحويل سوريا إلى مقبرة للجيش التركي إذا ما تدخل فيها، وبعدما كال الطرف الأخير الاتهامات لحكومة أنقرة بدعم “داعش” وغض الطرف عن إرهابها لتقويض الطموحات الاستقلالية لأكراد سوريا وتركيا.

هذا علاوة على وقف أنشطة تهريب السلاح والمخدرات والأموال والأفراد على الحدود المشتركة بين سوريا وتركيا والبالغ طولها 911 كيلومترا، وهو ما يفسر مواصلة إغلاق الحكومة التركية لمعبري باب السلامة وباب الهوى اللذين يصلان مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال سوريا بالأراضي التركية، للشهر الرابع على التوالي.

أما الهدف الأهم، فيتجلى في إقامة منطقة حظر طيران وأخرى آمنة في شمال سوريا، وهو المطلب الذي طالما ألحت من أجل بلوغه حكومة أنقرة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، فقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو يوم 25 يوليو/تموز أن الأراضي التي تم تطهيرها من مسلحي تنظيم “داعش” في شمال سوريا جراء قصف المقاتلات التركية، ستصبح “منطقة آمنة” يتموضع فيها الجيش السوري الحر ويلجأ إليها السوريون الفارون من القتل والدمار بما سيساعد على منع تسلل المسلحين، والتخفيف من تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا.

“اضطرت تركيا لتوجيه ضربات ضد “داعش” بعد حادث سروج، لكن تحركها بهذا المضمار جاء محسوبا ومحدودا وغير مؤثر، مقارنة بذلك الذي يتم بشكل متواصل ومكثف ضد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها”

وحسب صحيفة “حرييت “التركية، كلل الرئيسان الأميركي أوباما ونظيره التركي أردوغان أشهرا من المفاوضات باتفاق خلال اتصال هاتفي بينهما عشية عملية سروج، على سماح أنقرة للطائرات الحربية الأميركية وطائرات التحالف الدولي باستخدام قاعدة أنجرليك علاوة على قواعد باتمان وديار بكر وملاطيا شرقي تركيا في حالات الطوارئ، لشن هجمات على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.

بينما ستقدم تركيا الدعم لتلك الغارات من خلال مدفعيتها، على أن يتم بحث إقامة منطقة حظر طيران بواقع تسعين كيلومترا بين مدينتي مارع وجرابلس السوريتين، على الحدود مع تركيا، وستقدم هذه المنطقة الدعم لمنطقة آمنة مقررة على الأرض، يمكن أن تمتد إلى أربعين إلى خمسين كيلومترا داخل العمق السوري. وبينما لا يتضمن الاتفاق وصول أي قوات برية أميركية إلى تركيا، فإنه سيسمح بدخول عدد من الفنيين العسكريين لتقديم الدعم التقني.

وبذلك، تكون الصفقة التركية الأميركية قد أعادت تحديد معالم الدور التركي في الحرب على “داعش”، بحيث لا يتجاوز ذلك الدور المهام اللوجيستية التي كانت تضطلع بها تركيا منذ بداية تلك الحرب إضافة إلى فتح قواعد جوية تركية لمقاتلات التحالف، نظير قبول الأخير بإقامة نظام أمني تركي شامل على الحدود التركية السورية.

يتضمن هذا النظام -وفقا لبولنت أرينش نائب رئيس الوزراء- منطقة حظر الطيران والمنطقة الآمنة، إضافة إلى إقامة جدار عازل بامتداد ١٥٠ كيلومترا من الحدود، تعزيز سياج من الأسلاك وحفر خنادق إضافية، تركيب أنوار كاشفة على امتداد ١١٨ كيلومترا، إصلاح طرق الدوريات الحدودية، حفر خندق بطول ٣٦٥ كيلومترا على امتداد الحدود، ونشر حوالي ٩٠% من الطائرات دون طيار وطائرات الاستطلاع على الحدود مع سوريا.

هذا فضلا عن الإجراء الأهم المتمثل في إطلاق يد تركيا بشمالي العراق وسوريا لكبح جماح التطلعات الانفصالية لحزب العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي الكردي، علاوة على لجم المنظمات اليسارية المتطرفة داخل تركيا.

الجزيرة