تحقيقات وتقارير

“عيد بلا أحزان” تجربة التفويج أثبتت نجاحها فهل بالإمكان تطبيقها متى ما دعت الضرورة؟ المسؤولية جماعية وتضامنية ومطالب للسائقين بالالتزام بالسرعة المحددة

مثل حبات المسبحة تتجمع السيارات في معبر (سوبا) أو في جبل أولياء.. العبور نحو (السلامة) هكذا يطوف الجنود بزيهم الأبيض حول السيارات يقللون حدة الركاب واحتجاجاتهم ويخبرونهم (درب السلامة للحول قريب) وكأنهم يستعيدون أعواما أخرى من الأحزان التي سالت على طرقات وجوانب الأسفلت وغيرت طعم الإحساس بالعيد.
لكن مع انتهاء التفويج ـ وبحسب نائب المدير العام لقوات الشرطة المفتش العام الفريق عمر محمد علي ـ فإن التقارير التي تصل إليهم عقب انتهاء التفويج تؤكد على تناقص عدد الحوادث على خطوط المرور السريع بفضل عملية التفويج والتي ستخضع للدراسة بغية التطوير من أجل تحقيق الهدف الأسمى وهو تحقيق سلامة الجميع وهو ما يبرر رفع قيمة التسويات الفورية بغية تحقيق أكبر قدر من الردع باعتبار أن القيمة الأساسية هي الحفاظ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم.
مدير دائرة المرور السريع العميد آدم إبراهيم يقول بأن تجربة التفويج أثبتت نجاحها وإنهم سينفذونها متى ما دعت الضرورة دون التقيد بأزمان الأعياد لكن العميد سرعان ما يعود ليطالب السائقين بالالتزام بالسرعة المحددة وعدم تجاوزها معلنا أن المسؤولية عن السلامة هي مسؤولية جماعية وتضامنية.
في التاسوعة كانت البلاد تقف على أبواب العيد وعلى أبواب الخرطوم في الوقت نفسه.. الكل يبحث عن طريق يعيده إلى دفء العيد بين العشيرة.. والوصول إلى الدفء حالة تتطلب مجهودا مضاعفا في حال أن اللحظة لحظة عيد.. وهي المشاهد التي ارتسمت نهاية الأسبوع قبل الماضي على الوجوه في مدخل الميناء البري بالخرطوم، أكثر المسارح ضيقا بالمدينة، ربما هو ذات الأمر الذي يفسر سلوك ذلك الشيخ وهو يدفع بتذكرة الدخول الإلكترونية نحو يد مسؤول الدخول ويلحقها بالتساؤل: (ما المغزى من قيام ميناء بري؟) للرجل ما يدعم استفهاماته؛ فالدخول إلى هناك يعني الدخول إلى قلب المعمعة وارتفاع الضجيج مضاف له (حراق روح) السودانيين في نهارات رمضان، وثالثة الأثافي هي غياب الوسائل التي تعبر بالركاب مخارج الخرطوم.
ربما صارت أزمة مواصلات العيد من الظواهر المميزة للعيد السوداني لذلك فإن أحد الجالسين يخاطب رفيقه بعد أن استقر في جلسته تماماً (أنا مش كلمتك قلت ليك ما حنلقى مواصلات؟) لم ينتظر اكتمال بقية العبارات وحسمه بعبارة (بنتصرف) التصرف في الميناء البري لا يعني شيئا غير الحصول على تذكرة قيمتها مضاعفة بزيادة على زيادات فرعية البصات السفرية.. هنا الحصول عليها يتم عبر التعرف على أحد (الكمسنجية) ممن يتحصلون عليها من الشباك بسعرها الرسمي ومن ثم يفاصلون في الحصول على ربح فيها قبل أن يغادر البص.. رغم وجود عدد من رجال الشرطة داخل الصالة إلا أن النجاح في حسم فوضى السوق السوداء يبدو صعباً وعلى درجة كبيرة من التعقيد.. يقول أحدهم وهو شاب في العشرينيات من عمره مبرراً ممارسته للمهنة بعبارة واحدة (دا أكل عيشنا يا صاحبي وما عندنا حل غير دا) ربما عوامل أخرى تساهم في هذه العملية ففي الظروف العادية يعتمد أصحاب الشركات وبشكل كبير على هذه الفئة في شحن عرباتهم وهو الأمر الذي يمنعهم اتخاذ موقف معاد لهم في أيام الزحمة.. يعود ذات الشاب ليقول إن الزحمة فيها الرحمة وانه في أيام العيد يتحصل على عائد مجز يجعله يسمي هذه الأيام أيام الموسم.. موسمه لا يتوقف هنا في داخل الصالة معطلة التكيف وإنما خارجها، يكفيه أن يصرخ (هايس مكيف مغادر لأي من المدن) ويكمل العدد المقدر ويحصل على مقابله ويبحث عن (حديدة) أخرى للرزق.
2
الميناء في أيام الأعياد تصدق فيه عبارة (الأراضي خارجها أفضل من داخلها) وهو ما يعني أن عملية الحصول على تذكرة في الخارج أكثر سهولة من تحصيلها بالداخل أو الحصول على وسيلة ترحيل حيث يتخذ أصحاب الهايسات من التقاطعات المحيطة بالميناء مواقف مؤقتة يعلمها الجميع لكن بمقابل مالي قد يبدو كبيراً، فتذكرة الوصول إلى ربك تجاوزت المائة والعشرين جنيهاً.. المواطنون يحتجون لكنهم مضطرون لدفع القيمة بحسب ما يقول ياسر الذي يؤكد أن المبلغ قد لا يبدو في متناول الجميع لكن ظروف العيد تجبرك على دفعه كاملاً، ياسر لا يتوقف هنا وإنما يبحث عن مبررات لهذه الفاتورة بالقول إن عملية التشغيل باتت مكلفة وهو الحديث الذي وجد صدى طيباً عند أحد سائقي الهايسات وهو شاب في بداية العشرينيات رفض وصفهم بالاستغلاليين ويقول إنهم يفعلون ذلك مجبرين.. الشاب يخرج من طبلونه حزمة من إيصالات التسويات المرورية ويضيف ضاحكاً: (دي قبل ما يشتغل الإلكتروني) مردفاً أنهم يقضون أيام الأعياد في حالة إرهاق وهدفهم الوحيد هو زراعة بسمة في وجه طفل ينتظر والده أو أم في انتظار وليدها، كما أنه يضطر للعودة من هناك خالي الوفاض من أجل شحن (فردة جديدة) وأنه لا يعلم حتى الآن أين سيدركه العيد لكنه يجزم أن هذه اللحظة لن تكون داخل الميناء البري بالخرطوم.
3
يكتب على خلفية عربته السفرية (لا تسرع الموت أسرع) لا ينسى (يونس) الذي يعمل في القيادة لأكثر من ثلاثين عاماً أن يوصي مساعده في ذات بالعربة أن يزيح الغبار العالق بالصورة المأخوذة من أحد احتفالات أسبوع المرور العربي (أطفالك في انتظارك) الوصية بالمهلة مثل الوصول نفسه، وهو الأمر الذي يجعل السائق يدعو الجميع للاستمتاع بالرحلة معه دون الاستعجال فمهما طال المشوار ففي نهاية المطاف سيصل وهو ما يجعله مغتبطاً ولدرجة كبيرة بمشروع السلامة المرورية عبر الطوف الذي يقول بأن واحدة من ميزاته أنه خلق حالة من المساواة بين كل العابرين في (الزلط) وأزال حالة التفاوت بين موديلات العربات المختلفة، فالجميع يصل إلى مقصده في فترة زمنية متقاربة كما أن (الأول يبدو مثل الطيش) في ذات السلسلة.. يونس كغيره من السواقين يقول بأن ثمة اختلالات يجب النظر إليها في التجربة تتعلق بعدد عربات الطوف والمسافة التي يجتازها، فكلما قلت العربات والمسافة زادت درجات الأمان والسلامة، وهو الأمر الذي قال مدير المرور السريع إنهم سيضعونه في حساباتهم هذا العام خصوصاً في ظل توفر العوامل (اللوجستية المساعدة) والتي تقود في نهاية المطاف لتحقيق غرض العيد وأن لا تشوب فرحته أحزان.. هي ذاتها المبادرة التي طرحتها (اليوم التالي) في الأيام الفائتة وأسمتها (من أجل عيد بلا أحزان) عيد بلا حوادث مرورية كانت تحدث على مدار العام وطرق لا يقطعها شيء غير قيم الكرم السوداني حين ينادي الأذان على مواقيت الإفطار الرمضاني.
4
يقول عمار حسين المساعد في شرطة المرور إنه لا يدري حتى الآن اين سيدركه العيد لكنه متيقن بأنه سيكون في محطة بين (الأبيض) الذي يتوشحه وبين الأسود المصقول من الزفت في أحد شوارع المرور السريع.. عمار يشعر بالأسى لكونه لن يشهد العيد وسط أسرته لكنه في ذات الوقت يشعر بسعادة كونه سيساهم في وصول آخرين إلى أهلهم سالمين يضيف ضاحكاً: “مهما تأخرت فإن الغيار سياتي وبالعربة التي ستقودني إلى أهلي قبل العودة مرة أخرى في طواف العودة إلى الخرطوم عقب انتهاء العطلة أو في آخر أيامها”.. عمار كغيره من ذوي الرداء الأبيض يقفون في الشوارع أو يقودون العربة الأولى في الطوف أو يحملون مكبرات الصوت من أجل التنبيه فقط لتحقيق غاية سلامة الجميع ولقطع الطريق أمام الأحزان في أوقات الفرح.
5
في البص السياحي والتكييف يضرب كل الركاب فينسيهم حرارة الطقس بالخارج، الأمر لم يمنع بعض الاحتجاجات التي تخرج من آخر كنبة.. الشاب يسابق الزمن من أجل الوصول إلى نقطته الأخيرة لإنجاز التزاماته، فيوصل صوته للسائق أن تخطّ واذهب بنا سريعاً.. يتجاوزه في بداية الأمر وعند إلحاحه يرد “في كل الأحوال لن نصل قبل ست ساعات الزمن المحدد وفقاً لرغبة السلامة المرورية” الأمر لا ينتهي عند هذا الحد بل تتبعه حالة احتجاج على السياسات الحكومية برمتها وهجوم خاص على سياسة التفويج التي تأخذ كل الزمن والتي كان من الممكن تجاوزها بسياسات أخرى مثل تأهيل البنية التحتية وضبط السائقين وصيانة طرق المرور السريع من الأموال التي تقوم الحكومة بجباياتها وتوفير رادارات المراقبة في كل الطرق.. يرد عليه آخر: “كل هذه الأمور لم تتم فالطرق سئية والسائقون يتساتبقون من أجل تحصيل فردة جديدة والرادارات معطلة لكن الصحيح الوحيد هو تنفيذ سياسات التفويج فهو إن لم يقم بصيانة الطرق ولا تأهيل السائقين وتفعيل الرادارات فقد قلل من الموت بين جنباتها وقلل من تأجير خيم الأحزان عند تكبيرات الفرح”.
6
يقول مدير دائرة المرور السريع العميد آدم إبراهيم متحدثاً حول التفويج العكسي إن (تفويجهم) المواطنين هذا العام يأتي تحت شعار (من أجل سلامتك) لكن السلامة هنا تبدو مسؤولية جماعية تبدأ بالفرد نفسه وهو ما يجعله يطلب من الجميع مد أكف التعاون من أجل تحقيق تلك الغاية، فالغرض من العملية ليس تأخير المواطنين من الوصول إلى مواطنيهم بقدر ما هو (تأخير) للشين وتقليل من المخاطر تأكيداً لشعار (الشرطة في خدمة الشعب).
المشروع الذي بدأ كمبادرة من أحد رجالات الشرطة انطلق من شارع مدني المسمى في قواميس الأحزان السودانية بشارع الموت، سرعان ما دشن حياة جديدة وأدوارا متجددة تتكرر في كل الأعوام وتقوم على تضافر جهود الجميع من أجل السلامة المرورية وعيد خال من ثاني أكسيد الأحزان.. فقط عبر إعلاء قيمة الثقافة المرورية التي يجب أن يقوم بها الإعلام من خلال دوره المتعاظم أو لهذا الغاية جاءت مبادرة اليوم التالي (من أجل عيد بلا أحزان) وكأنها تقول بلسان تلك الصغيرة وهي تنتظر والدها وهو يأتيها بلبسة العيد وتنتظر في الوقت نفسها عمها الذي يقود الباص ليوصله إليها بالسلامة.. تنتظر فقط فرحتها بالعيد

اليوم التالي