اليسار الناعم واليمين الليّن
فيما عدا صحافتنا، فإن كُتّاب الرأي في جل الصحف المبثوثة في دول العالم الأخرى، يطرحون أفكاراً جديدة ورائعة، بعضها يمضي سريعاً نحو حيز التفعيل والآخر يظل محض أفكار مجردة (يؤخذ ويُرد) حولها إلى أن تلحق بنظيرتها أو تلتزم طيّات النسيان، فالذاكرة الإنسانية الراهنة لا (تتذوق) الفطير.
وإلى تلك (الأقداح) الصحفية، نمد (مغرافنا) نحو (ذي قارديان)، وهي يومية إنجليزية عتيدة وعريقة ورصينة، لكنها متطورة بشكل مذهل حتى يظن قارئها أن ثمة جديدا يطرأ عليها كل ساعة. وما أسعدني وأمتعني أن أقع صدفة على مقال باليومية المشار إليها لـ(نيل لاوسون)، تحت عنوان (بدون اليسار الناعم.. “العمال” محكوم عليه بالشنق). وهو مقال ينتقد أداء حزب العمال البريطاني، بعد الهزائم الانتخابية المتتالية التي حاقت به فظل يتراجع سنة إثر أخرى مقابل تقدم مضطرد لرصيفه ونده ومنافسه التقليدي (حزب المحافظين).
ابتدر (لاوسون) مقاله، بمقدمة شائقة فكتب: (يتحلل حزب العمال أمام أعيننا، ولهذا التحلل أسباب واضحة، ما لم يتم تداركها فإنها لا محالة ستجعلة ينهار بسرعة بعد أي هزيمة أخرى قادمة، ومن تلك الأسباب: هشاشة وسطحية البنية التنظيمية للحزب، وعدم إنجازه لأي تقدم فكري وتنظيمي حقيقي خلال الخمس سنوات الماضية، لكن هناك سبب أعمق لتراجع أداء الحزب وهو غياب أو (التخلي) عن تلك الفكرة المحورية التي كانت تميز حزب العمال، وهي فكرة تجمع بين الأيديولوجية والبراغماتية، فكان تنظيمه الداخلي ونشاطه بين الجمهور أكثر حيوية وديمقراطية وأكثر ميلاً للتعددية من بقية الأحزاب.
ولكن الآن، وفيما حاولنا إنتاج (وزنة) من شأنها أن تعيد العلاقة العدائية بين الحزب واليسار المتشدد (داخله) إلى حالة من الهدوء والتفاهم المشترك، فلا بد من إحياء وتنشيط التيار الذي كان يفعل ذلك، وهو بالتأكيد ما كان يعرف داخل حزب العمال بـاليسار الناعم، وتفعيل هذا التيار هو الحل الوحيد الذي سيمكن الحزب من السيطرة على “اليسار المتشدد” وكبح جماحه لجهة أنه السبب الرئيس في ما آل إليه الحزب من تردٍ وتراجع مريع في أدائه.
بدون هذا اليسار الناعم، الذي يمثل جسراً لعبور الحزب هذا الموج المتلاطم الذي يضربه منذ سنوات خلت، سيصبح حزب العمال منطقة خالية من (القيم) التي ظل يدعو لها ويبشر بها، حيث ظل (اليسار الناعم) الذي برز مطلع ثمانينيات القرن الماضي تياراً مهماً دخل الحزب كونه كان مخزناً للمفكرين والمبدعين والناشطين والسياسيين غير التقليدين).
وقياساً على (مقالة لاوسون)، وإشارته الذكية إلى دور اليسار الناعم في إحداث (وزنة) سياسية من شأنها أن تعيد حزب العمال إلى الواجهة مرة أخرى، فإننا ننصح الحزب الشيوعي السوداني، والمؤتمر الوطني بأن يحذوا (حذو) ما قال به لارسون، فكلاهما أطاح بالمبدعين والمثقفين والمفكرين، وأبقى على الخاملين ذهنياً، والناشطين كلامياً دونما أفعال، وعليه فإننا كي نعيد (الوزنة)، يحتاج الإسلاميون إلى (يمين لين) يدفع بالمتطرف من مركز الحزب إلى محيطه، وإلى يسار ناعم، يطيح بالماركسيين المتكلمين ويأتي بالمبدعين والفعّالين.