د. ياسر محجوب الحسين

بعيدا عن السياسة.. رمضان والعيد

بعيدا عن رهق الكتابة في السياسة نحاول اليوم أن نرتشف قليلا من عبق شهر رمضان الذي أوشك أن يودعنا ويتركنا نهبا لأمواج الحياة المتلاطمة، فهو شهر تُقال فيه العثرات.. شهر الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تُفتّح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، شهر تُجاب فيه الدعوات وترفع الدرجات وتُغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات ويجزل فيه لأوليائه العطيات، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم.. رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: إن من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
الصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، وقُربة إلى المولى عزّ وجلّ ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين والدنيا.. لابد أن نعلم ونعتقد يقينا أن الصوم عمل صالح عظيم، وثوابه جزيل، ولاسيَّما صوم رمضان، فالصوم فرضه الله تعالى على عباده وجعله من أسباب الفوز لديه.. حسبنا أن نقترب في خشوع وغبطة من بركاته ولتتأنق أرواحنا بسمو العقيدة وتتألق بنور الله.. إنه مثل لؤلؤة روحانية تهتز نضرة.. وتتألق عظمة.
من فوائد هذا الشهر أن العبد يعرف نفسه وحاجته وضعفه وفقره لربه ويذكره بعظيم نعم الله تعالى عليه ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء، فيوجب له ذلك شكراً لله سبحانه وتعالى والاستعانة بنعمه على طاعته، ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليه.
هذا رمضان يولي سريعا وكأن إقباله نشوانا مغتبطا كان بالأمس.. بعضنا حثّ إليه الخطى وشدّ الرحال والبعض فاته خير كثير.
اليوم العيد يطرق الأبواب بشدة وهو ثمرة من ثمار رمضان وتلك أيام فرح وحبور.. لو أن الفرح والابتهاج والسعادة فلسفة قائمة على الغنى والمال الوفير لبقي معظم أهل الأرض تعساء لا تغشاهم غيمة السعادة حتى لو كانت برهة أو سويعات مثلها مثل سحابة الصيف التي يضرب بها المثل في قصر مدتها.. العيد لوحة شاعرية وروحية وسراج وصل أزهر بيننا.. إنها مناسبة فلسفتها تقوم على الفرح، والفرحة في كل عيد جديدة كالورود الوليدة.. فرحة تفتح مغاليق القلوب الحزينة، فيه الكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين.. من لا يستطيع أن يفرح في العيد فإنه لن يستطيع أن يفرح في غيره..
كثيرٌ من الناس مفعم بالنكد والحزن حتى الثمالة، ويبقى يرسف في قيوده المصطنعة.. حتى أنه يجعل من اليأس قيدا يخنق كل أمل يغشاه.. حزن غير مبرر في نفسه دفين، كأنما يتوشّح سواد الليل حدادا.. نكدٌ وضجرٌ تظل عنقه له خاضعة، نفسه أسيرة حالة قسرية على نحوي يقول: كيف أنجو يا خالقي من نكد عارم، عاصف التوثّب ضارٍ.. يقولون: الإنسان مخلوق يولد باكيا ويعيش شاكيا.. الشاعر إليا أبو ماضي، يقول في قصيدته الشهيرة:
وشفاهاً تحذرُ الضحكَ كأنَّ الضحكَ جمرَهْ
ليسَ للقومِ حديثٌ غير شكوى مستمرَّة
قد تساوى عندهُمْ لليأسِ نفعٌ ومضرَّهْ
لا تَسَلْ ماذا عراهُمْ كلُّهم يجهل أمره

العيد فلسفة لابد وأن تتأسس على ضرورة النظر في النصف الممتلئ من الكوب.. هناك بالضرورة أم تنتظر قبلة أبنائها الذين اغتربوا عنها دون جدوى، وتلك الزوجة التي تنتظر هاتف زوجها المرابط في العمل بحثا عن الرزق.. ذلك الزوج الكادح المثابر ينتظر عودة زوجته بعد أن غضبت من عدم قدرته على شراء مستلزمات العيد.
قبل سنوات تعجبت، بل تأملت مليا في ذهابي وإيابي من العمل كل يوم ذلك الكوخ وهو (عشة) من غرفتين قوامهما مخلفات مواد البناء.. كانت (العشة) لرجل يعمل حارسا لعمارة تحت التشييد.. ذاك الرجل له قدرة فائقة على تحدي الفقر والظروف الصعبة.. في العيد كان لذلك البيت بهاء ورونق بديع.. عندما عدت ليلا أو في الساعات الأولى من أول أيام العيد كانت العشة محاطة بالزينة المتلألئة الأخاذة.. الرجل صاحب (العشة) الذي يفيض تفاؤلا وغبطة وحبا للحياة أحاط عشته بأشكال وألوان بهية من الزروع، ورودا وأزهارا.. كم من أصحاب القصور الشاهقة والحسابات البنكية الضخمة قد فشل في استدرار الفرح كما يفعل أصحاب تلك العشة؟! لقد علمنا ذلك الرجل أن البحث عن الفرح لا يستدعي اللجوء لاستخدام الميتافيزيقا، والميتافيزيقا أو الباراسكيولوجي هو علم ما وراء الطبيعة وهو علم له احترامه وليس كما يظنه البعض مجرد خزعبلات.
العيد فرصة لتجديد حسن الظن في الله وفيمن حولنا، حيث يطيب عيشنا.. إنه مناسبة لاعتناق الفرح بمساراته الروحية والدنيوية.. كيف لا نفرح ومع نسمات صباح العيد الأولى ترن نواقيس الأطفال وتعلو ضحكاتهم البريئة.. ليس السعيد الذي تسعده أمواله، بل السعيد من يتذوق فرحة العيد التي لا تكلفنا مالا ولا رهقا.. السعداء أولئك الذين لم يسرفوا ولم يقتروا في مستلزمات العيد بل اتخذوا بين ذلك قواما.