ثورات أوروبا الشرقية الحلال وثوراتنا الحرام
لنكن واقعيين! لم تعد الثورات في عصر العولمة شأناً داخلياً أبداً. ليس صحيحاً أن الشعوب هي التي تقرر مصيرها. إنها كذبة كبيرة جداً. صحيح أن من حق الشعوب أن تثور على الظلم والطغيان، لكن العبرة دائماً في النتائج. وهذه النتائج لا تقررها الشعوب في هذا العصر الفريد من نوعه تاريخياً، بل يقررها ضباع العالم، أي أسياده الكبار، فهم يقررون نجاح الثورات أو إفشالها.
أمريكا والقوى الكبرى الأخرى لم تصنع كل هذه الأعاجيب التكنولوجية التي جعلت من العالم قرية واحدة من أجل سواد عيون البشرية كي تنعم بسرعة التواصل المعلوماتي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، وكي تتنقل بين أصقاع المعمورة بسرعة البرق. لم تأت تلك الاختراعات التاريخية إلا خدمةً للشركات العملاقة التي باتت تحكم العالم، بما فيه الغرب الرأسمالي. لقد جاءت تلك الاختراعات لتسهيل عملية السيطرة على العالم من أقصاه إلى أقصاه.
وبما أن الاستحواذ على المعمورة هو الهدف الأول والأخير للعولمة، فمن غير المعقول أبداً أن يترك سادة العالم أي بلد في أي مكان أن يقرر مصيره بنفسه، خاصة إذا كان ذلك البلد أو تلك المنطقة تمتلك ثروات يسيل لها لعاب الشركات العملاقة العابرة للقارات. وبالتالي، فإن عمليات التغيير في العالم ليست من صلاحيات البلدان، بل من صلاحيات المتحكمين بالعالم، فهم لم يحوّلوا المعمورة إلى عالم مترابط اقتصادياً وإعلامياً ومعلوماتياً وثقافياً إلا ليكون في متناول أيديهم، يحركونه كيفما يشاؤون خدمةً لمصالحهم الكبرى، خاصة وأن النظام الرأسمالي انتقل في العقود الماضية إلى مرحلة التوحش الكبرى، بحيث تضخمت أطماعه بشكل رهيب ليبتلع الدنيا كلها.
وبالتالي، لم تعد الشعوب صاحبة قرار، ولا حتى الدول. فأي شعب أو دولة تحاول أن تلعب بذيلها، وتخرج عن السرب العالمي مصيرها الدمار والخراب. وقد كان العراق عبرة لمن يعتبر، فبمجرد أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين حاول أن يخرج قيد أنملة عن الخط المرسوم أمريكياً، شاهدنا ماذا حل به وببلاده.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للشعوب، فكما أن القوى المتحكمة بالعالم تقف بالمرصاد لأي نظام أو حكومة تحيد عن المرسوم، فهي أيضاً مستعدة أن تدمر أي شعب يحاول أن يمسك بزمام أموره بنفسه.
بعبارة أخرى، فإن الثورات تقررها القوى الكبرى، وليست الشعوب الرازحة تحت نير الظلم والطغيان. العالم بالنسبة للكبار يجب أن يكون كله تحت السيطرة. والثورات غير المطلوبة يجب أن تموت فوراً، أو إذا قاومت، فلا بأس من القضاء على الشعوب نفسها، أو تشريدها، كما يحصل الآن للشعب السوري، فقد استطاع النظام السوري أحد قادة الفوضى الخلاقة الأمريكية أن يشرد نصف الشعب السوري، ويقتل منه مئات الألوف، ويدمر ثلاثة أرباع البلد دون أن يرمش لضباع العالم أي جفن، لكن ليس لأن المتحكمين بالعالم لا يستطيعون إيقاف بشار الأسد عند حدوده، بل لأن بشار وأمثاله يقومون بمهمة سحق الثورات نيابة عن أسيادهم الكبار. ممنوع أن تنجح ثورة لا ترضى عنها الوحوش التي تتحكم بالمعمورة.
لاحظوا الفرق بين ثورات أوروبا الشرقية التي رعتها أمريكا والغرب عموماً في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وثورات الربيع العربي. لم يكن أصلاً للأوروبيين الشرقيين أن يثوروا في المقام الأول لولا التحريض والدعم الأمريكي، فقد عمل الغرب عموماً لعقود وعقود على تحريض أوروبا الشرقية كي تخرج من تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، وتنضوي تحت لواء الغرب الرأسمالي. وأخيراً نجحت امريكا من خلال أذرعها الإعلامية والدعائية والثقافية والاقتصادية والسياسية أن تدفع شعوب أوروبا الشرقية إلى الشوارع للانقلاب على النظام الشيوعي. وبما أن أمريكا هي التي أرادت لتلك الشعوب أن تثور، فقد ساعدتها فوراً على إنجاز ثوراتها بسرعة رهيبة. وقد شاهدنا كيف انتقل بعض بلدان أوروبا الشرقية من الشيوعية إلى الديمقراطية واقتصاد السوق فوراً.
لماذا؟ لأن الغرب يريد ذلك، وهو مستعد أن يفعل أي شيء لمساعدة تلك الشعوب كي تنضم إلى النظام الرأسمالي. لم تنتظر بلدان أوروبا الشرقية التي أنجزت ثوراتها بنظافة وبأقل الخسائر البشرية والمادية حتى تصبح أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
لاحظوا الفرق بين ثورات أوروبا الشرقية المطلوبة أمريكياً والثورات العربية غير المطلوبة أمريكياً. الفرق رهيب. قارنوا بين الخسائر هنا وهناك. كم عدد الذين ماتوا في ثورات أوروبا الشرقية؟ كم عدد المباني التي دمرتها الثورات؟ هل تتذكرون شيئاً؟ لا. لاحظوا ماذا حل ببعض بلدان الثورات العربية. سوريا تشرد شعبها، وتدمرت مدنها، وانتهت كالعراق، كما قال رئيس الاستخبارات الأمريكية الأسبق هايدن. انظروا إلى ليبيا التي تركوها تتناحر وتخرب وتتقسم. انظروا إلى مصر التي عادت إلى المربع الأول، والقادم أعظم. انظروا إلى تونس التي بدأ البعض يترحم فيها على النظام الساقط. انظروا إلى اليمن الذي يتفكك ويتصومل.
لماذا مرت ثورات أوروبا الشرقية بسلام وأمان؟ ولماذا تحولت ثوراتنا إلى وبال على بلادنا وشعوبها؟ لأن ثوراتنا ربما ليست مطلوبة أمريكياً، وفيما لو أرادت القوى المتحكمة بالعالم أن تـُحدث أي تغيير في منطقتنا، فلن يكون في صالح شعوبنا، بل في صالح القوى الكبرى وشركاتها العملاقة أولاً وأخيراً. إما أن ثوراتنا تشكل خطراً على مصالحهم، فكان لا بد من اختراقها وحرفها عن مسارها وتحويلها إلى كوارث على شعوبها، أو أن تلك الثورات أصلاً كانت بتحريك من القوى الدولية التي تريد تغيير خرائط المنطقة خدمة لمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
لا نريد أبداً للشعوب أن تستسلم وتقبل بما هو مرسوم لها من ضباع العالم، بل نريد فقط أن نضع لها النقاط على الحروف. المعرفة قوة.
٭ كاتب وإعلامي سوري
falkasim@gmail.com