بيوت سودانية
تفكّرت قليلاً، في بعض مصطلحاتنا، ومفرداتنا السودانية، التي لا تشبه مصطلحات، ولا مفردات الآخرين، عندما اتصل أحد أقربائي صباح الأمس، وسألني إن كنت في «بيت البكا»؟ ويقصد مأتم الأخ والصديق البروفيسور رضوان خفاجة ـ رحمه الله رحمة واسعة.. فأجبت سائلي بأن «الفراش» قد انتهى، وإن كان لنا عودة فهي في أوقات ما بعد ساعات العمل.
تفكّرت في المفردة «بيت البكا»، فنحن نربط الحدث بالموقع، ونسمّي بالوصف أو الفعل، ففي دوائر الأسرة، أو الحي، أو دوائر العمل، يكون «بيت البكا» هو مأتم شخص معروف لدينا، مثلما يكون كذلك «بيت العرس» حيث العريس أو العروس معروف لدى الداخلين في أي من تلك الدوائر، ولا يقف الأمر عند حد «البكا» أو «العرس» أو «الحزن» و «الفرح»، فهناك بيوت سودانية كثيرة، مثل «بيت الزار» و «بيت الطهور» و «بيت السماية» و «بيت الكرامة»، وهذه بيوت لا يخجل الناس من ذكرها، وتخص في العادة من هم على صلة بالحدث الذي يقع في ذلك البيت، من أهل وجيران وأصدقاء وزملاء ومعارف، لكن في المقابل هناك «بيوت» يستحي البعض من الإشارة إليها، أو الإقرار بالذهاب إليها، مثل المواخير البلدية، ويسمونها بيوت «…..» وهي معروفة، ويجتهد الأهالي قدر طاقتهم في إبعادها وإقصائها عن حرمات أحيائهم، لذلك تكون عادة عند أطراف القرى، أو بعيدة عن مراكز الثقل السكاني في أحياء المدن، وتمارس نشاطها السري تحت جنح الظلام ليلاً، وكذلك كل بيت من تلك البيوت التي لا تقوم على حق، أو فضيلة.. والأمر مفهوم.
والبيت لغة هو المسكن، ويعني لدى المسلمين الكعبة المشرفة، وهي بيت الله الحرام، وهناك بيت المقدس، والمساجد هي بيوت الله، وبيت الرجل أمرأته، وبيت الشعر هو كل كلام موزون اشتمل على صدر وعجز، وبيت القصيد، هو البيت الذي يجمل المعنى ويحمل الحكمة ويكاد يغني عن كل القصيد.
وهناك أعضاء في الجسم البشري توصف بالبيت، مثل «المعدة بيت الداء»، وتوصف بعض المنازل أو يلحق اسم ما يدار فيها أو يباع داخلها، فإذا كان هناك بيت تمارس فيه عادة القمار الرذيلة، فإنه يكون معروفاً وسط أهل الحي بأنه «بيت القمار»، وأذكر أن الممثل والفنان الكوميدي الكبير، الراحل المقيم الأستاذ الفاضل سعيد، قال وهو يتحدث عن تسمية شخصياته النمطية التي يؤديها، بأن اسم «بت قضيم» ارتبط في مخيلته منذ وقت باكر، إذ كانت هناك سيدة عجوز تبيع «القضيم» لأطفال الحي، وسُمّي منزلها باسم «بيت القضيم» فترسخ الاسم كأنما هو «بت قضيم» في ذهن ومخيلة الفنان الكبير الفاضل سعيد، لذلك جاءت تسميته لشخصية المرأة العجوز المتفلسفة والناقمة على ما حولها بذلك الاسم، لكن الذي لم يقله الراحل الفاضل سعيد، هوهل هناك أي تقارب بين الشخصيتين الأصل، والتي سميت عليها، سواء كان ذلك في الشكل، أو المضمون.
في السياسة ليست هناك بيوت كثيرة، فالناس عندما تسمع بـ«بيت الزعيم» فإنما يقع في أذهانهم منزل الزعيم الأزهري، وعندما يقول أحدهم «بيت الأمة» فإنما هو يعني دار حزب الأمة القومي، إن كان سودانياً، أو يقصد منزل الزعيم المصري وقائد ثورة 1919م سعد زغلول باشا، إن كان المتحدث مصرياً.
ومهما كثرت البيوت ونعوتها وأسماؤها، إلا أن حكمة السودانيين، وفلسفتهم الحياتية تجلت في أن اختصروا كل ذلك، وقالوا: «البيت بيت الآخرة».
اللهم ابن لنا بيوتاً في الجنة، واجعل طريقنا مقصداً للفوز والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وأن تجعل أساس بيوتنا وبيوت المسلمين العبادة والورع، ولحمتها الحياء والعفاف، يا الله يا أرحم الراحمين.. آمين.
[/JUSTIFY]بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]