غازي القصيبي وهيجان الشجون (3)
اتخذ الروائي والشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي «يعقوب أبو شلاخ» أداة لإبداء رأيه في عدد من القضايا المعاصرة، فشطح أبو شلاخ (من يعمد إلى الكذب والمبالغة والتهويل) وعبث بحقائق التاريخ والجغرافيا، ولو لم يشلخ صاحبنا لجاء الكتاب باردا وتقريريا، واستثمر قدرات أبو شلاخ الإبداعية لرد الاعتبار للعرب، فنسب إليهم معظم المخترعات، ومن بينها المضادات الحيوية التي استولدها طبيبان، (وهذا اسم شخص وليس مثنى «طبيب»)، وهو مستهبل كأبي شلاخ، من روث البعارين (الإبل) ممزوجة بأجنحة الجراد المجففة والفلفل الحار. ويذكرني هذا بفيلم بيلي الكذاب Billy Liar الذي عرض في الستينيات عن قصة للكاتب البريطاني كيث ووترهاوس الذي كان يكتب زاوية يومية في جريدة الدايلي ميل البريطانية، (عند تكريمه في عام 2001 بمنحه جائزة الخدمة الصحفية الطويلة، قال إنه لو كان يعرف انه سيفوز بالجائزة لقص شعر رأسه على نحو لائق)، المهم في هذا الفيلم الذي قام ببطولته توم كورتني يقف بيلي الكذاب أمام قبر جدته البائسة ويؤبن هذه السيدة العظيمة التي اخترعت البنسلين والراديوم).
المهم أن ابا شلاخ المفترى عليه من قبل القصيبي، يعزز شلخاته ببلاغيات لا يقدر عليها إلا المتمكن في فنون الدعابة الرفيعة، وتلك لازمة ثابتة في معظم روايات ومقالات القصيبي، الذين رمى بهم صديقي الراحل «في عين العاصفة» خلال حرب تحرير الكويت، لابد أن يذكروا كيف أنه قال كل ما يريد عن الأزمة بلا تشنج، بل كيف حملنا على الابتسام، رغم ما كنا نعيش فيه من رعب نحن الذين كنا بحكم إقامتنا في منطقة الخليج، نقع تحت طائلة كيماوي صدام حسين المزدوج وصواريخ سكد الحولاء.
وهكذا وفي سياق التشليخ البرمائي استعرض القصيبي ملكته الفذة في السخرية، في توليد استعارات وتشبيهات وحيل بلاغية حبلى بالمعاني: فهنالك الجحش قوة 800 حصان، ويذكرني هذا بالجحش الذي أهداه لي خالي لأذهب به إلى المدرسة، وكان أوتوماتيكيا، ولا ينطلق في الاتجاه المطلوب إلا بعد ان يسير إلى الخلف، لمسافة خمسين مترا، فحل عليه غضبي فقتلته جوعاً (لحسن حظي كانت بريجيت باردو وقتها غير معنية بحقوق الحمير بل بحقوق المراهقين فجادت على أبناء جيلي بإمكاناتها الفسيولوجية الرفيعة). وهناك حمير واجد (كثيرون) يحملون دكتوراه. وفي المدرسة كان ابو شلاخ متفوقا وجاء ترتيبه الأول على طلاب القطر البالغ عددهم ستة، ولاحقا حاور ابو شلاخ هتلر، فانفعل الأخير وسأله: وش تبي؟ (ماذا تريد)، وفي شركة وكمارا (ارامكو) كان مكتب المدير الأمريكي «كيلو في كيلو»، بينما كان هناك كمب (مخيم) مخصص للحيوانات والمواطنين.
ورغم ان إشراقات أبي شلاخ طالت أركان الدنيا الأربعة، فإن قاعدة انطلاقها ظلت منطقة الهفوف في شرق السعودية، حيث شركة ارامكو، التي نالها من لسان القصيبي مثل ما ناله الصحفي العربي اللامع ولعة ابو سيكل، صاحب عمود بـ«وكاحة»، (يقصد الصحفي المصري محمد حسنين هيكل) الذي تحدث القصيبي عن «قدرته الفذة على استنطاق الزعماء الموتى، أو نحسهم بأن يموتوا فور لقائه بهم»، وهو في هذا يشبه صديقاً لي فلسطينيا من مواليد عام 1948 وأكمل المرحلة الثانوية عام 1967، وسافر إلى باكستان عام 1971 فانفصلت باكستان الشرقية لتصبح بنغلاديش، وعمل في الصحافة، فما حاور وزيرا إلا وطار في غضون أيام، وجاء معنا إلى لندن عام 1994 لنلتحق بتلفزيون بي بي سي فاستأنف الجيش الجمهوري الايرلندي تفجيراته بعد هدنة دامت أكثر من 3 سنوات، ولأنني كتبت عن كراماته تلك فقد استهدفني، وعندما تم تكليفه ذات مرة بإقناع مسئول أمني إسرائيلي للمشاركة في حوار تلفزيوني، حدث تلاسن بينهما ختمه صاحبي بقوله: على كل حال إذا رغبت في الاشتراك في أي حوار في بي بي سي فبإمكانك ان تتصل بي واسمي جعفر عباس، وهكذا وُضع اسمي في القائمة السوداء في إسرائيل.
jafabbas19@gmail.com