في التظاهر بالعمل ..!
“الاستبداد يقلب القيم الأخلاقية رأساً على عقب، ليغدو النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفاً، والنذالة دماثة، وهو الذي يجعل الأخيار يألفون سوء السلوك” .. الكواكبي ..!
من الطرائف العالمية في شئون وشجون السلطة التنفيذية ـ والعهدة على “شينخوا” ـ أن السلطات الصينية قد أوقفت ـ قبل فترة ـ خمسة مسئولين من ذوي المناصب الرفيعة عن العمل، بعد أن ضبطوا متلبسين بجنحة النوم العميق، المصحوب بالغطيط، في أثناء حضورهم مؤتمراً عبر الفيديو يناقش أنجح الطرق للقضاء على الكسل في أثناء ساعات العمل ..!
أما إحدى طرائفنا المحلية فتقول ـ في ذات الصدد ـ إن مسئولاً رفيع المستوى قرر زيارة إحدى البقاع في بلادنا، فطلب المسئول الأول من المهندس الأول إنشاء طريق مسفلت، وبسرعة البرق، وعندما احتج المهندس بعكسية العلاقة بين السرعة والتنفيذ حسب المواصفات قيل له إن المواصفات لا تهم، بل إنجاز العمل! .. مبعث الطرافة أن الطريق المذكور ما يزال يمد لسانه لسكان المنطقة، وما يزال يعمل بالبركة، شأن معظم مشاريع و”مشروعات” العمل العام في بلادنا ..!
الطريق إياه مجرد عينة من أجسام هلامية شتى، تتخلق وتنمو في أطوار محدودة لخدمة مناسبات موسمية يتم فيها إهدار المال العام في التظاهر بالعمل (تظاهر السلطة الأدنى أمام السلطة الأعلى بالعمل والإنجاز على حساب الكفاءة المهنية والترشيد الحكومي) ..!
والآن صحح لي إذا أخطأت .. لا توجد ـ حتى الآن ـ استراتيجية محددة لمحاربة العطالة في السودان رغم كثرة الحديث عن خطط توظيف الشباب .. لا تظهر ـ حتى الآن ـ أي علامات فارقة في مستوى المعيشة رغم كثرة الحديث عن مشاريع محاربة الفقر .. لا تبرز ـ حتى الآن ـ أي اختلافات ملموسة على خارطة الفساد رغم كثرة الحديث عن تدابير المحاسبة ..!
أما تنازع الاختصاص فهو المشجب المفضل للقائمين على معظم مشاريع التنمية في السودان، والنتيجة منصرفات أكثر، ومنجزات أقل .. ناهيك عن تكاثر المتظاهرين بالعمل على حساب العاطلين (القادرين على العمل، الراغبين فيه، الباحثين عنه، دون جدوى) ..!
أي حديث عن تفاقم ظاهرة التظاهر بالعمل لا ينبغي أن يكون بمعزل عن تفكيك البعد الأخلاقي، ومن ثم تحليل المرض بناء على التشخيص النفسي والاجتماعي للظاهرة، قبل وصف الدواء القانوني والإداري الناجع ..!
والنزاهة في تفكيك المتغيرات التي تطرأ على المحكوم تقتضي الإشارة إلى ارتباطها المباشر بمسلك الحاكم وسلوك السلطة التنفيذية التي تتولى قيادة هذا المجتمع وتدبير شئونه بما يفترض فيه الخير والمنفعة .. فـ الأخلاق الموجهة للسلوك العام لا تنفصل أبداً عن كل ذلك، وعليه فإن مثالب القيادات غير الرشيدة هي الباعث الرئيس على تبدل غايات وأخلاقيات مجتمعات العمل العام وتفاقم أخطائها السلوكية ..!
التظاهر بالعمل في ساحات العمل الإداي هو الوجه الآخر للتظاهر بالإنجاز في ميادين العمل السياسي .. والإصلاح الحقيقي يتطلب نفض العدة القديمة وتصحيح المنهج .. فهل من مُذَّكر ..؟!
(أرشيف الكاتبة)