أتعس رأس سنة
لأسباب أفهمها تماماً لم يحتفل أهلي إطلاقاً بأعياد ميلادي، ومن بين تلك الأسباب أن يوم مولدي لم يكن بأي حال من الأحوال «عيدا»، فقد كنت مجرد فم إضافي، بمعنى أن وصولي إلى الدنيا أدى إلى تقليص نصيب من سبقني من إخوتي إلى الدنيا من الطعام والملبس، وقام معمر القذافي -لا بارك الله فيه- بتذكيري طوال 40 سنة بيوم مولدي (1 سبتمبر) لأنه انقلب فيه على الملك السنوسي، وقامت الجماهيرية العربية الاشتراكية الليبية العظمى، (ومن أراد أن تثكله أمه فليسألني عن سنة مولدي)، وهكذا ومنذ انقلاب القذافي أصبحت أجهزة الإعلام العربية مسؤولة عن تذكيري بيوم مولدي.
ولم يسبق لي أن احتفلت برؤوس السنين، وقد حاولت أكثر من مرة أن احتفل بتلك المناسبة رغم اقتناعي التام بأنها مفتعلة، ولم أوفق في تلك المحاولات إما لأن مجموعة أصدقائي في مرحلة الشباب وما تلاها كانوا من «المتخلفين» الذين لا يفهمون الفارق بين رأس السنة ومؤخرتها، ولا يحتفلون إلا برأس كل شهر افرنجي عندما يتسلمون رواتبهم، وكانت المشكلة الكبرى بالنسبة لي أن احتفالات رأس السنة تقام في الخرطوم في أندية ذات خمس نجوم أي من الفئة التي ما كان ليجوز لأمثالي مجرد الاقتراب منها ثم كانت القطيعة النهائية بيني وبين رؤوس السنة عندما دعاني صديق من النوع الراقي نسبياً إلى حفلة رأس سنة في أحد الفنادق، وكنت وقتها بالسنة الأولى بالجامعة وطلبت منه أن يلتقطني بسيارته من أحد المقاهي، التي اعتدت تناول الآيس كريم فيه في المناسبات الوطنية، أو كلما انتعشت أحوالي الاقتصادية، وكان من المفروض أن يأتي إليّ بعد غروب الشمس بقليل، وتوجهت إلى المقهى قبل الموعد بنحو ساعتين وظللت ألعق كأس الآيس كريم لنحو ساعة ثم حان موعد صلاة المغرب، فتوجهت إلى المسجد الكبير في قلب الخرطوم وأنا في كامل أناقتي الإفرنجية، وغادرت المسجد عقب الصلاة لأكتشف أن حذائي قد اختفى.
وكان موقفاً عصيباً: شاب في منتهى الأناقة والوجاهة يرتدي ربطة عنق حريرية وقدماه حافيتان، والمسجد في مركز المدينة، ولم يكن أمامي من سبيل إلا التفرغ للعبادة، وظللت داخل المسجد اتنفل حتى دميت ركبتاي، ثم تسللت خارجا، ولأن الله لا يتخلى عن عباده الطيبين لمحني صاحب المقهى، وأبلغني أن شخصاً ما جاء إلى المقهى يسأل عني، وكان ذلك الشخص صديقي البرجوازي، فحكيت للرجل الطيب تفاصيل الكارثة التي لحقت بي، وكعادة من هم على شاكلته فقد كان شهما وطلب مني الانتظار قليلا.. ثم عاد وسلمني زوجاً من الأحذية وحاولت بحركة مسرحية إعطاء الانطباع بأنني بصدد رد قيمة الحذاء إليه فأقسم بأن زوجاته الثلاث طالقات بواقع ثلاث طلقات لكل واحدة منهن إن هو أخذ مني قرشا واحدا، ومضى إلى وجهة أخرى حتى من دون أن ينتظر مني كلمة شكر، وبالطبع لم يكن الرجل الطيب قد سألني عن مقاس قدمي فأتاني بحذاء تتسع الفردة الواحدة منه لقدماي الاثنتين واضطررت إلى حشو كل فردة بقصاصات من الورق ثم غادرت المكان في خطوات محسوبة ماشياً كمن يخوض وحلا.. وكانت مشية فيها الكثير من الخيلاء غير المتعمدة لذاتها ولكن من باب الحرص على بقاء جزء من قدمي على الأقل داخل الحذاء، وقليلا قليلا خرجت من قلب المدينة ثم سلكت شارعاً فرعياً مظلما وحملت الحذاء في يدي، وظللت ماشياً حتى أن وصلت إلى مدخل السكن الداخلي بالجامعة حيث كان يقيم شحاذ في خيمة صغيرة وقدمت له الحذاء صدقة لوجه الله، وتسللت إلى غرفتي عبر النافذة، وكانت المفاجأة أن صديقي البرجوازي كان في انتظاري ولم يكن يبدو عليه انزعاج على أساس أن حفلات رأس السنة تبدأ في أواخر الليل، وما كان ممكناً أن أذهب معه لأنه لم يكن لدي حذاء احتياطي فاختلقت سلسلة من الأكاذيب البيضاء والسوداء لكي لا أصحبه إلى الحفل، ومن يومها وأنا لا أستبشر خيراً بقدوم السنة الميلادية الجديدة، أو صحبة المتبرجزين.
jafabbas19@gmail.com