هاشم كرار : أنا.. بالحرية في أذى!
الإنسان، هو المخلوق الوحيد- في ظني- الذي يعيش بين الذكرى والخيال، وليس هنالك من نوعه، من يعيش في اللحظة الحاضرة، إلا بشق أنفاس الروح بالسير والسرى، إلى مقام عظيم.
الانفلاتُ من التذكر، مستحيل.. وكذا التفلت من الخيال.
أتحداك.. جرب الآن، أيا من الاثنين، وإن انفلت أو تفلت (ابقى قابلني)!
لو كنتُ أنا حيوانا، أو نباتا، أو جمادا، لكنتُ قد أدركت ما إذا كانت هذه الكائنات- مثل الإنسان- تتأرجح في لحظتها الحاضرة، بين الماضي والمستقبل.
الذكريات والأخيلة نعمتان ونقمتان. منهما معاً ما يفرحُ، ومنهما ما يكدرُ النفس والفؤاد والروح ويوخز الضمير. جرّب الآن أن تتذكر ما يشرح قلبك، ويرقص نفسك، ويجعل روحك تصفق كطفل، ويريح ضميرك.. وجرب العكس تماما، لتروح في هم وغم.. وافعل ما فعلت مع الذكرى، بالخيال!
الخيال نعمة. قلتُ بيني وبين- نفسي ذات يوم: أنا أتخيل، إذن أنا أعيشُ في المستقبل. قلت ما قلتُ ورحت أكافئ النفس على هذه الجملة، بفنجان قهوة.. وأكافئها بسيجارة من علبة دخاني، وبين دخان قهوتي وسيجارتي، سر، وعشق، ورقصة باليه، تلوى وتمزج- حد الغياب- جسدين في الأعالي!
تخيلتُ.. تخيلتُ أنني أفكر كما أريدُ، وأقولُ بما أفكرُ، وأعمل بما أقولُ.. وكل تفكيري وقولي وعملي إحسان بالإنسان والكائنات طُرا. تخيلت أنني حر، في مجتمع حر، في دولة حرة. تلك هي الحرية، في تمام أناقتها وفتنتها. تلك هي الحرية التي يتصبّاها البشر، منذ أول إنسان فكر فيها، إلى يوم آخر إنسان مقموعا في زنزانة، لأنه فكر فيها- هكذا تفكير-حتى في الدول التي تتغنى الآن بالحرية، وتقيم لها تمثالا.. هو مجرد تمثال من التماثيل! تخيلتُ ما تخيلتُ، فتخيلتُ نفسي مقبوضا عليّ، مرميا مصفدا بالأغلال في زنزانة ضيقة.. رطبة وعفنة.. وتخيلتُ، السجّان يمر عليّ من وقت لآخر، يسبني بأقذع الألفاظ، ويجلدني جلدا، وتخيلتُ الحاكم في قصر الشعب، بين زمرته والزبانية، يقول نكتة سمجة عني، ويضحك.. وهّم في بلاهة فجة، يموتون من الضحك!
الخيال، هو إذن نقمة، كما هو نعمة. أجمل ما في الإنسان الإنسان- إلى جانب روحه السوية ووجدانه العامر بالمحبة وضميره الأبيض- أنه مثل الكائنات التي تستطيع الفرار: الفرار من الألم. فررتُ. فررتُ سريعا- من الزنزانة والقمل والسجان والشتائم المقذعة والسيطان والحاكم الذي يقول عني نكتة سمجة، يضحك.. والتنابلة يموتون من الضحك- إلى ما لا يؤذيني ولا يؤلمني: حاولت الفرار إلى رحم أمي! حاولت وحاولت، وحين فشلت بكيت من فشلي.. بكيت! أيها الناس: رحمان فقط تفرون إليهما، فرارا من كل أذى السلاطين والسجانين والزنانين والسياط والتنابلة المصفقين: رحم الأم ورحم الأرض.. الأول، الرجعة إليه مستحيلة.. والثاني، ليس منه من فرار، في الاتجاه المعاكس، حين تغرغرُ الروحُ في الحلقوم!
أيها الناس: إلى أن يضمكم رحم الأرض، أنتم من أذى إلى أذى، فأكثروا من الاستغفار يرحمكم- فقط- من في السماء!