أولاد الشوارع كواليس العالم السري لمتشردي الخرطوم
التشرد هو القاسم الأعظم في تركيب تفاصيل حياتهم اليومية، والحرمان يبقي اللغة التي يخاطبون بها الآخرين في التعبير عن حالهم، أما المعاناة تكاد تكون بمثابة الجرعة التي تثبط الهمم في الحياة ، على مر يتوزعون بين جنبات طرق ودهاليز المدينة كل منهم يحمل ألف حكاية زجت به كي يستجير بالطرق ليتحسس بها الأمان، فبعد أن ضاقت عليهم الحياة بما رحبت احتضنتهم مستنقعات المدينة التي لا يعلمها غيرهم، يستمدون منها تكوين جماعات عوضاً عن دور الأسرة والمجتمع الذي لفظهم عنوة وترك بهم وصمة العار لذنب لم يقترفوه بأيديهم ، بالقطع لم يكن دور المجتمع وحده لتأتي الجهات المسؤولة عن الرعاية وتصب الزيت على النار في حكاياتهم المريرة بتعقيد الكثير من الإجراءات من أجل أن ينعم أحدهم ولو بقدر بسيط من حقوقه تجاه حالته، الكثير والمرير بين حكايات المشردين وسط المدينة، البعض توصلنا إليه بعد معاناة، أاما الشق الأكبر يخفي حاله نظراً لليأس الذي تملكه :
من أفواههم
لم يكن ماعشته في غضون ليلة متقلباً بين سراديبهم المليئة سوي استثناء لما توفر، لأنهم ملوا من كل شيء ، ولم يعد في مقدورهم تصديق الوعود التي أيضاً ملوا منها ، بين أكواخهم تنقلت بحثاً عن مبرر كاف وسبب مقنع يجعلهم يفضلون هذا الحال، فعند الساعة التاسعة والنصف، توجهت صوب أكثر الأماكن التي تأويهم ، منطقة السكة الحديد بقلب العاصمة، تعد بمثابة دور الإيواء الأولى التي تحضن معاناتهم، فما بين قضبان السكة الحديد وغرف القطار يتوزع الكل متطرفاً يصارع مع الأرض حاله المرير، إلى جانب ذلك يستنشق غالبيتهم “السليسون” كي يغرق في الخيال بحثاً عن واقع آخر في حكاية أخرى يجدها مفر لما به ، كان أول مابدرت به أن أتجاذب أطراف الحديث مع الكل نظراً للدهشة التي ارتسمت عليهم ، بإن يسأل عنهم شخص أو يتفقدهم أحد ، الكل يحاول أن يبوح بما فيه ، فما بين الدمع والصمت تفصح حكايتهم، كان أولهم “م” الذي حدثني بحذر وقال : أنا أتوسط أسرة تتكون من 9 أفراد ، أبي متزوج من اثنتين ولكنه لايأبه بأحد من أبنائه ، تفتحت عيناي لأجد إخوتي في رحلة ما بين الشارع والعمل، وأمي التي لا تقوى على فعل شيء ، نظراً لعصبيتها الدائمة تجاهنا، لم أجد أحداً يهتم لأمري، حتى أن الوجبة اليومية لا أجدها ولا تتوفر لدينا، على الكل أن يبحث عن طريقة يتدبر بها أمره، ليقول: ذهبت لى السوق كي أعمل، فشيئاً شيئاً تخليت عن الأسرة ولم أعد في حاجة إليها لأنني أقوى علي تدبر أمري بنفسي.
أما “ص” تتشابك تفاصيل حكايته وتأخذ أغواراً عميقة ، وذلك حينما صعقني بحديثه قائلاً : أنا في الأصل من منطقة “جبل النوبة” ، جئت إلى الخرطوم بعد أن نزح أهلي من الحرب قاصدين البحث عن مخرج من هنالك، بالفعل جئنا إلى هنا دون أي شيء يحتوي ضياعنا، فإبي ليل نهار يعمل ليوفر القليل من الرزق لمعالجة اختي المقعدة، لم أجد سبيلاً سوى أن أخرج وأبحث معه عن طريقة توفر لنا سُبل العيش وتسد من رمق الجوع الذي يأكلنا، بدأ في تفصيل أكثر : كنت أعمل وأوفر ما أخرج به لأبي ولكن أبي تغيير واضحى ليس كما عهدناه، ليقوم بأخذ ما أجمعه ويتعاطي به الخمر، فحين توقفت عن تسليمه المصروف ضربني وقام بطردي من المنزل، لم أجد مفراً سوى أن أفعل ما يفعله “ناس الشارع” أنام معهم وأكل معهم، ولا أعرف أي اتجاه لأهلي، فهم رحلوا عن المكان الذي كانوا فيه.
تكاد حكاية “علي” ذي الـ14 عاماً تشبه إلى حد ما حكاية “ص” فسر لي مامر به وقال : كل ما أعرفه أنني كنت في زيارة من البلد مع أهلي إلى أقرباء لنا بالخرطوم كان ذلك قبل سنتين، خرجت ذات يوم مع رفاق لا أعرفهم من أجل اللعب، خرجنا وذهبت معهم في مكان لا أعرفه ، تأخرنا في العودة، وعندما أتى الليل سألتهم عن الطريق ، لم يدلني أحد بل قالوا لي “نحنا ماعندنا بيت” ، قلقت ولم أجد نفسي إلا وأنا معهم، وإلى الآن لا أجد سبيل الوصول إليهم.
الكثير من الحكاوي بينهم، لكن أقساها قصة “م” الذي حين تسمعها من فاهه ستبكي مدراراً للألم الذي يعانيه، فبحسب قوله يعاني من مرض صدري هو ما جعل أهله يضربون عليه “العزلة”، بل لفظوه إلى الشارع خشية أن يصاب شخص آخر منهم ، وعلى لسانه يقول : على حسب علمي من إخوتي ولدت سليماً ولكن بسبب جرعة عن طريق الخطأ أصبت بالمرض –صمت برهة- وأخذ أنفاسه ليكمل : أبي كان يبحث عن طريقة ما كي يتحرر مني وتكاليف علاجي، خلال ذلك كان يتعرض لي بالضرب وتارة أخرى بالشتم، بل كان يميز إخوتي عني عنوة في ذلك، – حين سألته- “إذن أين والدتك؟” ، فأجاب : أمي توفيت ولم أرها “دمعت عيناه” وأضاف : أنا لست قلقاً من شيء ولا أحمل أي كره لأبي لأنه لا يملك المال لمعالجتي، ولكنني أشتاق لإخوتي ، وعبر عن وضعه الحالي بقوله : “نحن هنا نعمل ونأكل وننام ، فقط يقلقنا البرد في فصل الشتاء”.
مشاهد بشعة
على مر تبقى حياتهم تضج بالمعاناة والألم، فبإجماعهم يعيشون على بقايا المطاعم إن سمح لهم أصحابها بتركهم يأخذونها، بحسب قولهم لايسمحون لهم بأخذها ، بل يفضلون عليهم الحيوانات من “كلاب ، وقطط” ، إلى غير ذلك قال الكثير منهم إن إعاشتهم تبقي بـ”المجازفة” والمغامرة وعلى حساب بعضٍ “من له قلب وهذا نادر “، من جانب آخر كشف “ن” أنهم يقتاتون من عرق جبينهم ، وذلك من خلال جمعهم للخردة وبيعها من “كريستالات ، وحديد ، ونحاس” ، فالمشهد يكمل تفاصيله بعد أن شاهدت جلسة سمر على خط السكة الحديد بشارع الغابة ، وهم يقومون بحرق النحاس ويتكومون حول قدر من الطعام ، بل الأدهى من ذلك حين اقتربت أكثر وأرى إلى جانبهم زجاجات الخمر”العرقي” الذي يصنعونه لوحدهم ، إلى جانب تكوم جرعات “السلسيون” وكأنه احتفال خاص لقطاعاتهم المختلفة ، ففي خط شارع الغابة يلتئم شملهم من مختلف الاعمار.
السجن الفسيح
من ناحية أخرى تبقى أحاديثهم عن الإيواء مثار صدمة وغصة في الحلق فبحسب قول “ت” عن ذلك إنهم بين الفينة والأخرى تأخذهم “الكشة” إلى معسكر يقبع بضاحية “سوبا” لإيوائهم، ولكنهم لايفضلونه، نظراً للكثير من المآسي والمضايقات التي يتعرضون إليها داخله، ليشير “ت” إلى أن من بين ذلك أننا داخل المعسكر نتغوط ونأكل ونتنفس في مكان واحد ، وإن تحدث أحدنا أو تضجر من ذلك يتعرض للضرب من قبل المشرفين، بل يقف في الشمس على مدار اليوم ، ويحرم من الطعام بقية اليوم، فهنالك لا نجد سبيلاً للاستمرار في حياة أرحم منها السجن، ليضيف: يهرب الكل من هنالك بعد صلاة الفجر لأن المشرفين في ذلك الوقت يغطون في نوم عميق، وأكد بحسرة: أنا ما ماشي المعسكر أنت منهم ولا شنو؟
من لهم؟؟؟
في سياق التفاصيل الجمني رجل الشرطة “محمد” بحديثه عن المشردين حين قال في سرده : إن هذا الحال الذي فيه هؤلاء يأتي عن إهمال منظم ، بل تأكيد للتقصير في حق أناس تتوكأ عليهم الدولة في حمى المستقبل، فقال خلال حديثه : إن حكاياتهم لم تتشكل محض صدفة، أو هي عبث من القدر ، بل هي تفاصيل من عمق المجتمع شكلها محاولاً أن يتنكر لها ، يأتي التفكك أولها ومن ثم المشاكل الأسرية والاقتصادية ، ليضيف : يأتوا إلي الشارع وتحضنهم بؤر السوء ، ومستنقعات الجريمة بكافة أشكالها ، فهم يتوزعون إلى فئات وإعمار ، القوي منهم يأخذ الضعيف والغلبة للكبار ، واسترسل : لا أخفي عليك كل ما يخطر على البال يحدث بينهم، من استخدام الأطفال والتعذيب والاغتصاب واللواط ، نحن كجهات أمنية نعمل ما في وسعنا لتوفير الأمن وقليل من الوجبات حماية من عبث الشارع، وقال ضمن حديثه : كل ما كتب عنهم وأذيع عبر أجهزة الإعلام لم يوضح شيئاً خلف الصورة الحقيقة، أنا عبرك أوجههم بالتعمق أكثر إن كان طرقهم من باب المعالجة ، مؤكداً خلال قوله : الدور لا يقع بعاتقه على الأسرة ، فإن فشلت كان الأجدر بدور الرعاية أن تحضنهم في حماها ولكنها أيضاً فشلت ، وأضاف : دور الرعاياة لا تعمل ، فأنت بينهم وسمعت كما أسلفوا يتعرضون لإهمال بين وتعذيب متوالي فيها ، ليبين أن مسؤولي الرعاية الذين كان الأجدر بهم تكفيل الحقوق لهؤلاء القُصر والمشردين تعمل في فلك بعيد عن رسالتها، أنا عبركم أنبه إلى أنه إن لم تعالج هذه الظاهرة فحتما ستتفاقم لأنها تستشري ، فمن لهم وأين أنتم منهم.
التيار
لا حول ولا قوة الا بالله