الطلاب والسياسة والحصاد المُر
ظلت الجامعات السودانية في حالة نزيف طلابي منذ أكثر من نصف قرن، والنزيف المقصود هنا ليس فاقدا تربويا أو قصورا تعليميا، وإلا لكان الأمر هينا.. العنف الطلابي بسبب النشاط السياسي غير الرشيد حصد ومازال يحصد العشرات من شباب واعد غض الإهاب.. الأربعاء الماضي شهد آخر ضحايا العنف الطلابي، فقد أعلنت الشرطة السودانية، عن مقتل طالب جامعي، إثر اعتداء إحدى المجموعات الطلابية السياسية على مجموعة سياسية أخرى خلال مواجهات دموية داخل حرم الجامعة، بينما أصيب طلاب آخرون وأُتلفت بعض ممتلكات الكلية. ومنذ العام 2012، قتل عشرة طلاب في جامعات مختلفة.
النخب السياسية حكومة ومعارضة تتحمل مسؤولية جريمة العنف بين الطلاب الذي هو حتما امتداد للانقسام السياسي الحاد في الشارع السوداني، ولا يمكن عزله عن ذلك بأي حال من الأحوال في ظل ممارسة سياسية غير رشيدة قائمة على الاستقطاب الحاد.. الحكومة تحجر العمل السياسي على معارضيها وتضع أمامهم كل عقبة كؤود.. ولو أن حرية العمل السياسي متوفرة لما لجأت الأحزاب إلى نقل نشاطها الحزبي إلى ساحات الطلاب في انتهازية مقيتة.. هذه الأحزاب الحاكم منها والمحكوم لم تقدم للبلاد والعباد طيلة (59) عاما بعد ذهاب الاستعمار إلا فشلا ذريعا.
صحيح أن قادة العمل السياسي في السودان اليوم بدأوا نشاطهم السياسي داخل المؤسسات التعليمية، بيد أن الظروف المحيطة بالبيئة الجامعية اليوم لم تعد تلك التي كانت تحيط بطلاب عقود مضت لا من حيث الثقافة ولا من حيث العمر.. فضلا عن أن ممارستهم العملية للسياسة اليوم لم تصب نجاحا، بل ظل العمل السياسي في السودان مترعا بكثير من العلل والإخفاقات.
السؤال الملح هو ما هي ضرورة ممارسة الطلاب للسياسة؟ وهل يكفي أن يسمح بها مع اشتراط عدم ارتباطها بالنشاط الحزبي خارج أسوار الجامعات؟. الواقع لا ضرورة البتة لممارسة الطلاب للسياسة، حتى لو كانت بمعزل عن النشاط الحزبي خارج أسوار الجامعات. بل المطلوب التثقيف السياسي بمعنى إطلاع الطالب وتوعيته بكافة قضايا مجتمعه. ويقصد بالثقافة السياسية مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شؤون السياسة والحكم. وكذلك تعنى أيضاً منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم. وإن أردنا أن يمارس الطلاب العمل السياسي بشكل راشد مستقبلا فعلينا أن نبدأ من دور الحضانة وحتى دخولهم الجامعات حيث يتم تعليم الأطفال كيفية قبول الآخر وكيف يختلف شخص مع شخص ويكون صديقه.
الواقع اليوم يشير إلى عدم اهتمام الدولة بتدريس مناهج التربية القومية وقلة المناهج التي تستهدف التوعية السياسية في مراحل التعليم المختلفة. وهناك ضعف واضح لدور المدرسة في تنظيم المناقشات التي تفيد في زيادة الوعي السياسي للطلاب والتلاميذ وترسيخ الولاء والانتماء لديهم.
لقد أصبح القلق اليوم يسيطر على كثير من أولياء الأمور الذين أضحوا يفضلون ذهاب فلذات أكبادهم إلى جامعة الرباط السودانية التي تحرم النشاط السياسي، فقد شهدت الجامعة استقرارا أكاديميا فريدا.. في مصر كذلك تفاقم أمر ممارسة الطلاب للسياسة مما حدا بجامعة عين شمس منع النشاط السياسي، ففي سبتمبر الماضي وقع الطلاب الجدد ضمن أوراق ملفات التقديم على إقرار باحترام التقاليد الجامعية، وعدم ممارسة الأنشطة السياسية أو الدينية داخل الجامعة، إلا من خلال القنوات الشرعية التي يحددها قانون تنظيم الجامعات.
هل تملك وزارة التعليم العالي في السودان الشجاعة اللازمة وتتقدم خطوة إلى الأمام وتتبنى تشريعا يمنع العمل السياسي في الجامعات وتدعم الأنشطة البناءة التي تفيد الطلاب وتناسب ثقافتهم واحتياجاتهم التعليمية؟ نشك في ذلك لأن الدولة بخيلها ورجلها مشغولة بالصراع السياسي العقيم الذي أطاح بآمال المواطنين في واد سحيق من الفشل المتكرر.
عندما تذكر السّياسة يتحسس الناس بطونهم ويبحثون بسرعة عن دواء للقضاء على حالة الغثيان التي تنتابهم جراء ذكر السّياسة قاتلها الله.. كثيرون يعتقدون يقينا أنه لا فرق بين السّياسة والنفاق، فالاثنان وجهان لعملة واحدة.
من نوادر جحا أن حاكم المدينة مرّ عليه يوما وهو في الحقل يمشي أمام ساقية تدور بحمار وقد ربط جحا في عنق الحمار جرساً، فسأله الحاكم لماذا وضعت الجرس في عنق الحمار يا جحا؟. فقال جحا: ربما أدركني النوم فإن لم أسمع صوت الجرس فأعرف أن الحمار قد توقف عن العمل فأصيح به فينطلق مرة أخرى في الدوران.. فقال له الحاكم: وماذا لو وقف الحمار وهز رأسه هكذا (وهز الحاكم رأسه).. فقال جحا وأين لي بحمار يكون عقله مثل عقل حاكم مدينتنا؟!.