الأمريكان والجهاز الكاذب (2)
ظلت الأجهزة الأمنية الأمريكية تستخدم جهاز الكشف عن الكذب المعروف بالبوليغراف منذ 100 سنة، ولكن مجلس البحوث التابع للأكاديمية الأمريكية للعلوم أصدر قبل سنوات تقريرا يفيد بأن ذلك الجهاز «كذاب» لأنه يدعي قدرات لا يمتلكها، وكان ذلك بعد تجارب أثبتت أن الإنسان إذا كان يعرف أنه سيخضع لاختبار الكذب على البوليغراف وأعد أجوبته الكاذبة بحيث تكون حسنة السبك ورددها لنفسه حتى اطمأن إلى أن أكاذيبه تلك «حقائق»، فإنه يكذب بقلب جامد ولا تصدر عنه أي إشارات يستطيع الجهاز التقاطها ليثبت أنه كاذب.
وبالمقابل قد يكون من يخضع لاستجواب أمني على البوليغراف صادق في نفي التهم الموجهة إليه، ولكنه – وكما يحدث في مثل تلك الظروف – خائف ومضطرب ومتوتر، فيرصد الجهاز علامات التوتر تلك ويقول في تقريره «ابن الذين هذا سواها وهو الآن يخاف عقباها.. علي بالطلاق إجاباته التي ينفي فيها الشبهات والاتهام كاذبة.. يا جماعة هذا الشخص نزف عرقا كاد أن يتسلل إلى أسلاكي ويسبب لي صدمة كهربائية»، وعند السلطات الأمنية الأمريكية لا صوت يعلو فوق صوت البوليغراف.
لي صديق يكذب على مدار الساعة كذبات من مختلف الأوزان: من وزن الذبابة إلى وزن الدبابة.. يسافر في إجازة إلى قبرص ويكلمك من هناك ليقول لك همسا: أنا في إسرائيل في مهمة رسمية سرية.. وتقول له: ولكن رقم الهاتف ورمز فتح الخط يؤكد أنك في قبرص!.. لا يرمش صاحبي ولا يتأتئ بل يرد عليك بقلب جامد «المخابرات الإسرائيلية (الموساد) قامت بتمرير المكالمة عبر قبرص حتى لا ينكشف أمري».. ذات مرة قال لي بعد إحدى سفراته «المريبة» إن أحد أعمامه توفي وترك له مبلغا ضخما وأنه سافر كي يحول المبلغ إلى حسابه في بنك محلي، فطلبت منه على الفور «صدقة»: انت عارف أخوك مزنوق وأكون شاكرا لو أعطيتني ألف ريال هبة ومنحة.. ولأن الكذب عنده حرفة فقد غاب عني نحو ساعة وعاد وأعطاني ألف ريال قائلا: هذا نصيبك من ورثة عمي.. وأخذت المبلغ منه، فكاد أن يغمى عليه، فقد كان يحسب أن «عزة النفس» ستمنعني من أخذه.. ولو جاء الأمريكان والشيشان والأفغان بكل أجهزتهم لكشف الكذب واستجوبوا صاحبي هذا على مدى سنوات لما سجلوا عليه كذبة واحدة، رغم أن كل من يجالسه لخمس دقائق يعرف أنه كذاب محترف.. وهذا ما يجعله محبوبا من الجميع.
الجديد في عالم الكشف عن الكذب في الولايات المتحدة جهاز «نو لاي إم آر آي» طورته شركة اسمها سيفوس.. نو لاي تعني «لا كذب» أما «إم آر آي» فهو الجهاز الطبي المعروف باسم الرنين المغناطيسي.. والجديد في أمر هذا الجهاز أنه يقوم بالتنقيب في مواقع معينة في المخ لتحديد ما إذا كان الشخص المستجوب صادقا أم كاذبا.. ومن خضع للتصوير الطبي بذلك الجهاز يعرف هول التجربة، فالجهاز عبارة عن مغناطيس ضخم ويتم تقييد حركتك بأربطة ثم وضع سدادتين على أذنيك وتجد نفسك فجأة محشورا في قبر معدني.. لأن جسمك كله يدخل في تجويف ضيق، ورغم السدادتين تسمع بوضوح آلاف المطارق تنهال على الجهاز وكأن هناك من يحاول أن يكسره وأنت بداخله بلا حيلة.. ولو حشروك في ذلك الجهاز ستعترف بأنك وليس أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، وبأنك عضو قيادي في بوكو حرام وموسكو حلال، وبأن لديك أدلة بأن الشيخ حسن نصر الله شيوعي وليس شيعيا!
كل هذا رغم أن التجارب المؤلمة ابتداء من حادثة سبتمبر 2001 علّمت رجال المخابرات في كل أنحاء العالم أن الإنسان وليس التكنولوجيا أفضل أدوات التخابر وجمع المعلومات.
jafabbas19@gmail.com