ديمقراطية نيجيريا على المحك
بكى محمد بخاري على الملأ عقب خسارته انتخابات عام 2011، وأقسم بأنها ستكون آخر مرة يترشح فيها لانتخابات رئاسية.. لكنه فعلها الأسبوع الماضي، حيث أُعلن رسمياً في نيجيريا أكبر دولة إفريقية من حيث السكان (170 مليون نسمة) عن فوزه بعد أن ألحق هزيمة حاسمة بمنافسه الرئيس المنتهية ولايته جودلاك جوناثان.. بخاري رجل المتناقضات بامتياز، فمن ديكتاتور عسكري سابق قاد انقلابا أطاح فيه بالحكم المدني وانفرد بالسلطة ليتجرع فيما بعد نفس الكأس من الجنرال إبراهيم بابا نجيدا، إلى مدني ديمقراطي بعد (30) عاما.. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ نيجيريا التي يتولى فيها حزب معارض مقاليد الحكم ديمقراطياً من الحزب الحاكم، فهل ذلك مؤشر على نضج التجربة الديمقراطية في نيجيريا، بما في ذلك الشخوص؟.
ليس من السهل فهم الخريطة السياسية في نيجيريا وفي إفريقيا عموما بدون الحديث عن الخريطة القبلية، التي تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في إفريقيا.. وسكان نيجيريا موزعون على نحو 250 قبيلة، كما أنهم منقسمون إلى فئات ومجموعات سلالية ولغوية وثقافية ودينية، فهناك 248 لغة يتحدث بها سكان نيجيريا.. ولا يمكن الادعاء بأن النظم السياسية التقليدية في إفريقيا ما قبل الاستعمار كانت نظماً ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث، لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة، لم ينتج عنها تلكم الإشكاليات الماثلة اليوم.. بعض أبناء القارة من المتعلمين كتبوا مشيدين بالنظم التقليدية، لكن ذلك ربما كان بدافع الرد على نظرائهم من المستعمرين الذين حاولوا إيجاد مبررات أخلاقية للاستعمار.
لقد ساد إفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول، قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني، قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعاً أو كرهاً.
بعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال وتبادل السلطة في إفريقيا، وكان ثلثا سنوات نيجيريا منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1960 تحت حكم الجنرالات، حيث تدخل العسكريون في المسرح السياسي للسيطرة على الحكم أكثر من ست مرات منذ استقلال نيجيريا. بدءا بانقلاب الجنرال إيرونس عام 1963، ومرورا بانقلاب الجنرال يعقوب قاوون عام 1967 والذي سيطر على الحكم حتى عام 1974 وهي الفترة التي شهدت حربا أهلية بين القوات الحكومية والانفصاليين في إقليم بيافرا وفي عام 1975 قاد الجنرال مورنالا محمد انقلابا عسكريا أعقبه انقلاب مضاد أسفر عن قتله عام 1976. وتولى الجنرال، أوبيجينو، الحكم الذي وعد بإجراء انتخابات ديمقراطية وتسليم السلطة للمدنيين. وبالفعل أجريت الانتخابات وتولى المدنيون السلطة حتى عام 1983 عندما قاد الجنرال محمد بخاري نفسه انقلابا عسكريا أطاح فيه بالحكم المدني وحكم حتى عام 1985 عندما قاد الجنرال إبراهيم بابا نجيدا، انقلابا مضادا أطاح فيه بالجنرال بخاري.
اليوم أمام بخاري الذي يصفه أنصاره بالنزاهة والاستقامة والصرامة والقبضة الحديدية، تحديات جسيمة في بلد تنتشر فيه معدلات الرشوة والفساد، أبرزها القضاء على الفقر الذي يمس شرائح اجتماعية كبيرة وذلك رغم الثروات النفطية، فهي أكبر اقتصاد في إفريقيا بفضل ثروتها النفطية، بيد أن ثلثي سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر.. لقد تبددت مقدرات نيجيريا بسبب الفساد السياسي، فجميع الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال لم تنج من تهمة الفساد الذي كان السبب الرئيسي وراء الإطاحة بها.. ونيجيريا واحدة من أكبر دول العالم في تجارة المخدرات، خاصة الكوكايين والهيروين، وهي عمليات كانت تتم بتخطيط وحماية كبار المسؤولين في الدولة.. لذا عندما احتفل أنصار بخاري بفوزه لوّحوا بالمكانس في الهواء، وهي ترمز لوعود حملة بخاري الانتخابية بكنس الفساد المستفحل في البلاد.
لعل ما يشيع الأمل في التجربة النيجيرية ما بدا من مظاهر حضارية عقب انتهاء المعركة الانتخابية، فمن جانبه، أقر الرئيس جوناثان بهزيمته في بيان عقب الإعلان الرسمي عن النتائج. وحث الرئيس المنتهية ولايته أنصاره على الهدوء وتقبل النتيجة وذلك في مسعى منه لتفادي أي عنف محتمل بعد الانتخابات. وكان أكثر من 800 شخص قد قتلوا في احتجاجات اندلعت عندما فاز جوناثان على بخاري في انتخابات سابقة. ويأتي فوز بخاري بعد أن مني في الماضي بثلاث هزائم متتالية، الأولى في 2003 والثانية في 2007 والثالثة في 2011 أمام منافسه جوناثان.