محطُّ الرحال
> لعب السودان دوره المرتجى والمطلوب منه في الإقليم بتقريب وجهات النظر والتأليف بين قلبي مصر وإثيوبيا، بعد خلافات امتدت لسنوات حول مياه النيل وقيام سد النهضة الإثيوبي الذي اعترضت عليه مصر منذ البداية، ووصلت فيه معارضتها إلى درجة الوعيد من أجهزة الإعلام المصرية التي حرضت الدولة المصرية على شن غارات بالطائرات الحربية لتدميره!! وعلى نار هادئة عمل السودان وخاصة وزارة الموارد المائية والكهرباء وفرقها الفنية على قيادة الطرفين لنقطة اتفاق، وحصرت موضوعات الخلاف في أضيق نطاق، حتى تم التفاهم وتذلل الحوار المصري الإثيوبي وزالت المخاوف والهواجس.
> ولحظة التوقيع على الاتفاق الإطاري لقيام سد النهضة، لحظة سيسجلها التاريخ للخرطوم، بأنها سعت إلى تغليب المصالح والمنافع المشتركة بين شعوب المنطقة، ونزع فتيل التوتر ومنع لغة المواجهات والتحريض، ووضعت الجميع أمام مستقبل زاهر يرتكز على التعاون والتضامن والبحث عن المشتركات والبعد عن الخلافات وما ينتج عنها من مشاعر سالبة وتضييع لفرص ثمينة.
> وهذا الدور الذي لعبه السودان وتوقيع الاتفاق في الخرطوم حدث لا يمكن تجاهله على الإطلاق، ولم يحدث خلال العقود الماضية حدث له أهميته الاقتصادية والتنموية والسياسية والدبلوماسية، مثل القمة التي حدثت في القصر الجمهوري في الخرطوم نهار أمس جرى فيها ما جرى، وهو حدث يعكس روح الحكمة التي أدار بها السودان هذا الملف ونجاحه في خدمة أهداف مشتركة لفائدة الشعوب وللأجيال القادمة، وبهذا انفتحت صفحات جديدة وأبواب كانت مغلقة بين القاهرة وأديس أبابا، وما كان ليوجد من يستطيع إزالة المزاليج والأقفال غير الخرطوم، وعينها لا تنظر إلى العائد السياسي الكبير الذي تجنيه من هذا الاحتفال الكبير وقمة الرؤساء وضيوف السودان من دول الجوار، إنما تنظر بكلتا عينيها إلى المستقبل وما يحمله من آفاق جديدة في البناء والنهضة وتحقيق التنمية والاستفادة من هذا المشروع الإفريقي الضخم وما تنتظره المنطقة الإفريقية كلها من فوائد.
> وبمنطق السياسة ومنطق المصالح فإن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بواسطة الرؤساء عمر البشير وهايلي مريام ديسالين وعبد الفتاح السيسي كان حصيلة جهود طويلة ونقاشات مضنية وحوارات فنيين ووزراء استمر لفترة طويلة جداً نوقشت فيها أطنان من الأوراق وانفقت فيها أيام وليالٍ وساعات صاحبها رهق واختلافات حتى تجسرت المسافات وبنيت الثقة وتوفرت القناعة بأن سد النهضة لن يكون إلا لخير البلدان الثلاثة، فإثيوبيا ستنتج الكهرباء وتحقق استقرار منسوب النيل الأزرق طوال العام بما يجعل نهر النيل منساباً ودفاقاً بالخير دون نقصان أو فيضان، ويستفيد السودان ومصر من المياه ومن الطاقة المنتجة من السد، لتزيد وتستقر المشروعات الزراعية والإنتاج الزراعي والصناعي، وهذه دورة تكاملية للموارد واستفادة مشتركة من مقدرات البلدان الثلاثة، وقد عبر الرؤساء الثلاثة عن تطلعات شعوبهم وآمالهم بدقة وطموح كبير، ولم يكن ذلك متوفراً لولا الوضوح والصراحة والثقة والصدق الذي تم به الإعداد لهذا اليوم، فقد كان الطريق إليه طويلاً وشاقاً وصعباً.
> ما تم من تفاهم أمس، يجب أن يكون مقدمةً للاستفادة من كل الفرص المتاحة لتكامل الموارد وتسخيرها من أجل الشعوب، فدول حوض النيل ينتظرها عمل دؤوب حتى تجتاز الخلافات في مبادرة دول حوض النيل وفهم بعضها البعض، وإزاحة الشكوك والريب، فكل شيء يتم بالحوار المباشر والمرونة والتفهم والتعقل السياسي، فليكن اتفاق أمس مقدمةً للمضي قدماً في شتى مجالات التعاون بين بلدان دول حوض النيل خاصة البلدان الثلاثة التي ضمها اتفاق الأمس، وعليها يقع عبء تقديم الأنموذج الفعَّال للتفاهم والشراكة من أجل التنمية والنهوض من ربقة الماضي إلى مستقبل زاهر.
> وينبغي هنا أن نشيد بوزارة الموارد المائية والكهرباء والوزير معتز موسى والوزراء الذين سبقوه، لما قاموا به من عمل وجهد جبار كان يمضي في صمت حتى تحققت هذه اللحظة التاريخية التي وُقع فيها على إعلان المبادئ وطوي ملف الخلاف حول سد النهضة، وصار السودان محطَّ رحال الدول والباحثين عن وفاق وتراضٍ وتعاون.