أغني لشعبي ومين يمنعني
* بنستناك على صهوة جواد الريح
بنستناك في الزمن اللديح القيح
بنستناك.. رحيلك بشتن الدنيا ورتب العالم البي هناك. !
* عذراً صديقنا الحبيب أزهري محمد علي، فالانتظار لم يعد مجدياً، وننصحك يا (أبا زرياب) بالأ تطيل الوقوف أملاً في عودة عزيز من الأسماء الخالدة التي غادرت دفتر دنيانا وانسلت عنها في هدوء وصمت.. لم يعد من الممكن أن يرن جرس هاتفك فيأتيك على الطرف الآخر صوت الشاعر الفذ محمد الحسن سالم حُميد مُجلجلاً يحمل بين طياته كل معاني التفاؤل والأمل والإخضرار والتحدي والنضال.. لم يعد ذلك ممكناً لأن حُميد أغمض إغماضته الأخيرة بعد رحلة عامرة بالإبداع والطيبة والبساطة والمعاناة والرهق اللذيذ.. كتب في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة أعوام آخر حروف الرثاء التي قرأها الناس على أعين هاشم صديق وعركي والقدال والسر عثمان الطيب.. بكاه الجميع بحسرة وألم بعد أن اعتصر الأسى ضلوعهم وانفطرت أفئدتهم ووقفت الغصة في حلوقهم كنصل سكين حاد والناعي ينعي (شاعر الغبش) عقب تعرضه لحادث حركة مشؤوم بشريان الشمال لتنقطع شرايين القوافي ويلبس الشعر ثوب حداد.!!
* كان حُميد استثنائياً في مواقفه وشعره ورحلة حياته.. حمل هموم الناس وآلام الغبش الكادحين وكتب بمداد الصدق في أزمنة النفاق، فكان صوت الناس وحسهم وإحساسهم وصدق حينما قال:
أغني لشعبي ومين يمنعني
أغني لقلبي إذا لوعني!
* ذبلت أوراق الأمل، وتمددت مساحات اليأس بعد رحيل حميد الذي لم يعرف الانكسار يوماً.. كانت حياته عبارة عن قصيدة طويلة لخدمة الناس ونقل نبضهم والتعبير عنهم، وكلما ضاقت به المساحات الرحبة واشتد عليه الحصار أوجد لنفسه حيزاً و(نفاجاً) حتى باتت قوافيه في بعض الأزمنة كالمنشورات المحظورة يتداولها الناس (سراً)، ويحفظونها عن ظهر قلب إلا أنهم لا يستطيعون الوقوف في المنابر للصدح بها (جهراً) .!
* إذا أردت معرفة معنى النبوغ الأدبي وعبقرية شعر العامية السودانية، فعليك بحميد، إذا كنت راغباً في معرفة عميق ارتباط القوافي بالأرض والناس والمعاناة والهموم فحميد هو ملاذك، إن كنت تبحث عن أشعار قاسمت الناس لقمة الأفراح والآمال والأحلام، و(تحكرت) مع الكادحين والغبش في (واطة الهم العام)، فعليك أيضاً بالرجوع لشعر حُميد فهو أصدق بيان وأعمق تبيان .!
* كثيرة هي الدروس والعبر التي بإمكانك استخلاصها من سيناريوهات الكدح الحلال في دروب الحياة الشائكة من لدن شعر حميد، وما أجمل صور القيم الاجتماعية والدلالات الإنسانية والمشاركة الحقيقية التي ترسمها ريشته في لوحات أدبية باذخة الجمال، ودونكم المشاهد المعبرة والفتوغرافيا الناطقة بقصيدته التحفة (عم عبد الرحيم) التي شدا بها الفنان الراحل المقيم مصطفى سيد أحمد، فتجد البعض يهيم معه مثلاً في مقطع:
والماهية أف.. عيشة هاك وكف
في هذا الزمن تب يا دنيا تب
في هذ الزمن تف يا دنيا تف
يا العبد الشقي ما اتعود شكي
لكن الكفاف فوقك منتكي
والسوق فيك يسوق حالا ما بتسر
إلا كمان في ناس فايتاك بالصبر!
* إن كانت تلك الأبيات التي تحكي واقع حال بائس صمت عنه الكثيرون خوفاً ووجلاً تؤكد للناس مدى صدقية حميد مع نفسه ومجتمعه وتصالحه مع هموم شعبه ورسمه لصورة شظف العيش ومصارعة الظروف بحثاً عن اللقمة الحلال، فإن أكثر ما يطربني في (عم عبدالرحيم) حد الاستلقاء بهجة حواراً عميقاً بين (عم عبد الرحيم) الذي يريد لزوجته ثوباً وحذاءً يليقان بها يوم خروجها للناس بينما وعي (أمونة) لواقع حال البيت (العدمان التعريفة) يدفعها لطرد شيطان فكرة الشراء التي لا يعرف الزوج لتحقيقها سبيلاً. حيث يتضح جمال تلك القناعة بجلاء في قوله:
أمونة الصباح قالتلو النعال
والطرق انهرن.. ما قالتلو جيب
شيلن يا الحبيب.. غشهن النقلتي
والترزي القريب.. بس يا أم الحسن
طقهن آبفيد.. طقهن آبزيد
انطقن زمن وإن طق الزمن
لازمك توب جديد وبي أياً تمن
غصباً للظروف والحال الحرن
شان يا (أم الرحوم) ما تنكسفي يوم
لو جاراتنا جن مارقات لي صفاح
أو بيريك نجاح ده الواجب إذن
وأيه الدنيا غير لمة ناس في خير
أو ساعة حزن.!
* و(ثوب) حُزن رحيل حميد ليس باستطاعة أمهر ترزي إعادة صياغته و(ترقيعه)، فالعبقري المناضل ترجل عن صهوة الحياة ليعيد للأذهان مرثيته التي كتبها حزناً على رفيق دربه مصطفى سيد أحمد وقال في أحد أبياتها:
يوماتي.. تهاتي وطن وطن
مع إنو أداك ميتة الغربة
واستخسر فيك الكفن!
* رحل حميد مخلفاً (حذاء) حزن ليس باستطاعة أشطر (نِقُلتي) إعادته لحياة الفرح من جديد.. رحل حميد تاركاً جرحاً لا يندمل وحزناً لا ينتهي، وتأتي ذكراه الثالثة ولا يزال مقعده شاغراً، فقد افتقدنا مناضلاً مهموماً بالناس و(ود بلد) أصيل، قبل أن يكون مبدعاً وشاعراً.!!
نفس أخير
* وخلف ود بادي نردد :
صوتك بالبلد مشرور وصوتك في القلوب مدفون
وصوتك في حكاوي الناس وفي وتر الغنا الملحون!