سياسية

الترابي وغازي وتلك الليلة

إن عدداً من التلاميذ النابهين ربما يسعى بعضهم للخروج من معطف أستاذه، ومنهم من يحس بأنه صار نداً له أو متفوقاً عليه. وعلى سبيل المثال، فإن الأستاذ أنيس منصور كان من أميز تلاميذ الهرم الفكري الشامخ الأستاذ عباس محمود العقَّاد، وأكثرهم حضوراً لندوته الأسبوعية الراتبة، وكان من المعجبين به والمقرَّبين إليه. وكتب عنه في كتابه القيِّم الممتع (في صالون العقَّاد كانت لنا أيام). وكان الأستاذ أنيس يُدرِّس الفلسفة بالجامعة بجانب عمله صحافياً محترفاً وفي عهد عبد الناصر تم تخييره بين العملين وطلب منه أن يتفرَّغ لأحدهما ويترك العمل الآخر، فآثر التفرُّغ للصحافة والكتابة. وقد عاش حوالي نصف قرن إلا قليلاً بعد وفاة أستاذه العقَّاد، وكتب ونشر عشرات الكتب ونشر حوالي عشرين ألف عامود صحافي. ولعله بدأ يشعر عندما تقدم به العمر بأنه لا يقل عن العقاد وأخذ يرسل للقارئ إشارات تحمل في ثناياها هذا المعنى مثل قوله إن العقاد كان يجيد اللغتين العربية والإنجليزية. أما هو فإنه يجيد بجانب هاتين اللغتين عدة لغات أخرى مثل الألمانية والفرنسية واللاتينية والعبرية، وأن الأستاذ كان يستعين به في ترجمة بعض المواد من الألمانية وغيرها. وذكر إنه دارس ومُدرِّس للفلسفة، وكان الأستاذ يتدارس معه فيها. وخلاصة القول إن الأستاذ أنيس منصور أراد أن يخرج من معطف أستاذه عندما أحس بأن الكتوف قد تلاحقت. وعلى العكس من ذلك، فإن البروفيسور عبدالله علي إبراهيم وهو باحث وأكاديمي نال بمثابرته واجتهاده درجة الأستاذية وعمل لسنوات محاضراً بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، وعمل أستاذاً للتاريخ الإسلامي بعدة جامعات أمريكية، وكتب في الفلكلور والتاريخ الاجتماعي، وفي القصة والمسرح والنقد الأدبي والتحليل السياسي. أما الأستاذ عبد الخالق محجوب، فقد كان من الطلاب النوابغ وعُرف بإجادته للغة الإنجليزية والترجمة منها وإليها، وقطع دراسته الجامعية بالقاهرة بعد إكمال الصف الثاني لأسباب مرضية وبعد عودته للسودان تولى سكرتارية الحزب الشيوعي وهو في الثانية والعشرين من عمره، وتم إعدامه وهو في الرابعة والأربعين من عمره ورغم مهامه الحزبية إلا أنه كتب في هذا العمر القصير بعض الكتب ومنها كتابه المدارس الاشتراكية في أفريقيا، ولكن بالتجربة العملية سقطت جُل تلك المدارس والنُّظم التي ذكرها. وعندما تُجرى مقارنة من حيث الكم والكيف بين ما كتبه هذا أو ذاك، تجد أن كفة بروفيسور عبدالله علي إبراهيم هي الراجحة، ولكنه ظل عندما يذكر السكرتير الأسبق للحزب الشيوعي يردد كتابةًً أو شفاهةً (أستاذنا عبدالخالق محجوب). وجاهر الأستاذ أحمد سليمان بعدم رضاه عن كلمة أستاذنا هذه واستوقفت آخرون حيرهم كثرة إيرادها حتي ملوها، ولكن من حق البروفيسور عبدالله أن يكتب ما يقتنع به ولعله يفعل ذلك وفاءً للأستاذ عبد الخالق الذي أدرك قدراته وإمكانياته منذ أيامه الأولى عندما كان طالباً بجامعة الخرطوم، ولعله أعجب بأسلوبه وكان يعهد إليه كتابة بعض أدبيات الحزب الذي فارقه البروفيسور عبدالله تنظيمياً قبل عدة سنوات.
ومن كُتَّابهم المجوِّدين الأستاذ كمال الجزولي المحامي الذي تجد كتاباته اهتمام المخالفين له قبل المؤيدين. ولو أنه تفرغ بجانب عمله في المحاماة والقانون للجوانب الإبداعية والثقافية والفكرية، وأدار ظهره لما عداها من المكبلات التنظيمية الضيَّقة، لكان ذلك أفضل له ولقرائه الكُثْر. أما دكتور غازي صلاح الدين العتباني، فهو لم يُرد أن يخرج من معطف شيخه دكتور حسن الترابي فقط، ولكنه أراد أن يمزِّق هذا المعطف. وقد كان من المقربين للترابي وينتمي للحلقة الضيقة اللصيقة به، وشغل عدة مواقع استشارية وتنفيذية. وفي عام 1996م وقف الترابي على الملأ مسانداً له ومصراً على ترشيحه وفوزه بموقع الأمين العام للمؤتمر الوطني عندما كان تنظيماً فضفاضاً شاملاً قبل تسجيله وتحويله لحزب وكادت تحدث في ذلك المؤتمر العام فتنة جهوية بسبب موقع الأمين العام الذي فاز به دكتور غازي بسند قوى من دكتور الترابي، وكان دكتور مجذوب الخليفة يتحرك كالنحلة بين ردهات قاعة الصداقة التي أُجريت فيها الانتخابات في تلك الليلة. وبعد عامين انعقد مؤتمر عام للمؤتمر الوطني وتم انتخاب دكتور الترابي أميناً عاماً وعُيِّن دكتور غازي بعد ذلك وزيراً للإعلام، ولعله لم يكن راضياً عن هذا التغيير، وتردد يومئذ أنه كان رافضاً لهذا التعيين، وسأله أحد الصحافيين هل ستقدم استقالتك من الوزارة؟ فردَّ عليه بتساؤل استنكاري مِن مَن يُستقال؟ وحسب البعض إنه لو عُيِّن وزيراً للخارجية أو نائباً للأمين العام بعد إقصائه من موقع الأمين العام، لكان ذلك أخف وأهون على نفسه. ولعله أحس بالغُبن تجاه شيخه وسعى للانتقام منه في نفس العام، وكان من أبرز مهندسي ومقدمي مذكرة العشرة التي هزت الأرض تحت أقدام الترابي، وجاء في الأنباء أن دكتور غازي التقى بالسيد الرئيس وكان من المتلهفين لإذاعة قرارات الرابع من رمضان في عام 1999م وعدم تأخير إعلانها، وكانت تلك هي قاصمة الظهر التي حدثت بعدها المفاصلة بين الوطني والشعبي (القصر والمنشية).
ومن المفارقات أن دكتور الترابي الذي ساند في عام 1996م تلميذه المقرَّب إليه وأثار غضباً جهوياً في ليلة الاقتراع على موقع الأمين العام، لجأ لأبناء الغرب ليقود عبرهم معركته مع تلاميذه بعد أن انقلب عليه تلميذه وصحبه. وما فتئ دكتور غازي في جُل الفرص التي تُتاح له عبر أجهزة الإعلام يقلِّل من قدرات الترابي السياسية عندما يُسأل عنه وهو مجروح الشهادة، ويحسب الكثيرون أن الترابي مفكر ومخطط إستراتيجي من الطراز الأول لا يُشق له غبار، واستطاع بسند من تلاميذه وبعض أبناء جيله أن يحوِّل بالصبر والمصابرة والمثابرة حركة ضغط صغيرة لدولة تهز وترز، وأن المختلفين أو المتفقين معه لا ينكرون قدراته الفكرية الهائلة وهو في البداية والنهاية بشر كسائر البشر الآخرين يصيب ويخطئ وهو مثير للجدل وسيكتب التاريخ ما له وما عليه بما في ذلك تعليقاته الساخرة ولذعاته و(خرمجاته) أحياناً وهو لا ينسى وينتقم كما حدث في المؤتمر الشهير الذي أسقط فيه مقدمي مذكرة العشرة إلا واحداً تم تصعيده بمساندة صديقه والي الخرطوم وقتئذ، ومع ذلك يقول بعض عارفوه عن قُرب إنه يتسامى في لحظات الصفاء عن مثل هذه الصغائر، ولعله في سنوات المفاصلة كان يحس بالأسى لأنه هو الذي هزَّ جذع الشجرة هزاً عنيفاً، والتقط غيره الثمر بينما رمته هو حجارة كثيرة وانتاشته نبال عديدة وإن بعض المؤلفة قلوبهم الذين يمنحون الأعطيات والهبات المالية لتسير مناشطهم يتزلفون للنظام بإبداء العداء للترابي. وإن لكل مرحلة عمرية ما يناسبها ونأمل في المرحلة القادمة أن يتعامل ويتصرف الشيخ ابن الثالثة والثمانين بما يناسب هذا العمر من حكمة وحنكة وأناة وسعة صدر وعدم انفعال. أما بالنسبة لدكتور غازي فقد وجد أن نار خصومه في النظام الحاكم الذين لا يطيقونه أو يرتاحون إليه وهم كُثْر أشد عليه من رمضاء شيخه الذي أزاحه من موقع الأمين العام للمؤتمر الوطني وحلَّ محله. وبعد إقصاء دكتور غازي من المفاوضات بعد توقيعه على اتفاق ميشاكوس الإطاري شبَّه ما حدث له بمثل ما يحدث لهداف ماهر في لعبة كرة القدم كان يهم بإدخال هدف ذهبي ولكن حاسدوه أزالوا الشبكة وأضلاع المرمي الثلاثة قبل أن يسدد هدفه الذهبي الذي يرفع شعبيته وسط المشجعين، وكافة محبي مشاهدة كرة القدم!! وفي عام 2005م عقدت هيئة شورى الحركة الإسلامية مؤتمراً كان من بين أجندته اختيار أمين عام للحركة ورشح دكتور غازي لهذا الموقع المهم، ولكن يبدو أن بعض القيادات في الخرطوم خشيت أن يفوز ولذلك رشحت شيخ علي دون علمه لأنه كان غائباً في نيفاشا وفاز بالموقع. وقبل عامين أو أكثر عقدت الحركة الإسلامية مؤتمرها العام وأجمعت القيادات الفاعلة على ضرورة اختيار الامين العام بواسطة هيئة الشورى وليس بواسطة المؤتمر العام لاعتبارات وتقديرات وقفت عليها وانسحب دكتور غازي من المنافسة ولم يظفر بالموقع وقبل انعقاد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني بأكثر من عام حدث بين دكتور غازي ومجموعته من الاصلاحيين ما هو معروف بتفاصيله للجميع وتم إقصاء وإبعاد عدد منهم من الحزب، ولعل خصوم دكتور غازي قد تنفسوا الصعداء لإبعاده هو بالذات. وعلى المستوى الشخصي، فإن دكتور غازي إنسان عالٍ الثقافة وكاتب مجوِّد وعرف بالاستقامة والنزاهة وطُهر اليد، ولم تحُم حوله أية شبهة فساد وهو في السلطة أو خارجها، ولكنه وهو الحصيف لم يدرك أن لهذا النظام حدود لا يريد لأحد مثل المفكر غازي وفي تقديري إن النظام يمكن أن يمنحه إذا وافق موقعاً تنفيذياً طال ما أنه أضحى بعيداً عن الحزب والحركة الإسلامية، ولا يسدد وجوده هاجساً لأحد وبرغم ما وقع بين الترابي وغازي إلا أن المقربين من الترابي يؤكدون أنه في مجالسه الخاصة لا زال يبدي تقديره لدكتور أمين حسن عمر ودكتور غازي وآخرين.

 

صحيفة الانتباهة