الأطباء والوزارة.. سياسة الاسترقاق المهني
لا أحد يستطيع أن يفهم بالضبط سياسة الدولة وتوجهاتها في التعامل مع قضية هجرة الأطباء والكوادر الصحية.. هل نحاول فهمها من خلال تصريحات المفاخرة الشهيرة لوزير المالية السابق بأن السودان يصدر للعالم (النبق والدكاترة).. أم نفهم الموقف من خلال سياسات التضييق ومحاولة إغلاق أبواب الهجرة أمام الأطباء بوضع إجراءات لتصعيب هجرة الاختصاصيين مع الإصرار على عدم توفير محفز لبقائهم في البلاد؟ ..
الفرق كبير جداً بين راتب هزيل يتقاضاه الطبيب الاختصاصي في وزارة الصحة وبين ما يمكن أن يتوفر له من راتب ومخصصات محترمة وبسهولة شديدة بمجرد التحاقه بإحدى وزارات الصحة أو المستشفيات في دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية ..
ولو استمر نزيف هجرة الأطباء السودانيين بنفس المعدلات الحالية فستجد وزارة الصحة نفسها بعد وقت قريب مضطرة لجلب أطباء اختصاصيين من الخارج وبالدولار (المافي) للعمل في مستشفيات البلاد ..
وما بين بيئة العمل الصحي الداخلية الطاردة وبين الفرص المتاحة في المتناول والعروض السخية المتوفرة للأطباء بالخارج يضيع الدرب أمام وزارة الصحة ولا تعرف كيف تتعامل مع هذا الملف .
العجز والفراغ في الخدمات الصحية يعني موت (العيانين).. فالقضية حساسة والمهنة ليست مثل أية مهنة أخرى يمكن الصبر على عجز في الكوادر العاملة فيها مثل نقص المهندسين أو عدم توفر إمكانيات مالية وميزانيات لبناء طرق للمرور، إذ يمكن الصبر على ذلك وتأجيل بناء تلك المشروعات واستخدام شوارع ترابية عادية حتى يأذن الله ويفتح على الحكومة فتبني طريق الأسفلت.. وكذا كل المهن والمجالات الأخرى لا يتسبب نقص الكادر في موت أحد.. حين لا يوجد المعلم في المدرسة.. فإنها قضية خطيرة لكن لا مقارنة بينها وبين عدم وجود طبيب مداوٍ في المستشفى لأن النتيجة هي موت المريض.. الكادر الطبي في المستشفيات قضية (حياة أو موت) وببساطة فإن الدول التي توفر هذه الفرص السخية أمام الأطباء السودانيين لا توفرها من باب الترف بل لأنها دول حكوماتها ملتزمة بتأمين وأداء واجبها الأساسي في توفير الخدمات الصحية للمواطنين، هذا الدور الذي بغيابه تفقد الحكومة أهليتها تماماً..
أول أمس أعلنت وزارة الصحة في السودان عن نقل وتعيين واستبقاء (385) اختصاصياً وتوزيعهم على المناطق الطرفية في الولايات، وعلى الرغم من أن توزيع الأطباء في الولايات المختلفة والمناطق الطرفية يحقق الاستقرار النموذجي ويوطن العلاج في تلك الولايات ويحقق التوازن المطلوب، لكن وبالنظر إلى هذه الظروف التي يعيشها القطاع الصحي من حركة هجرة كثيفة فإن المحافظة على وجود هؤلاء – على الأقل – داخل البلاد تقتضي أن يكون نقل الطبيب الاختصاصي إلى تلك الولايات قد تم برغبة كاملة ورضا من جانب الطبيب نفسه وليس قراراً إلزامياً..
يجب على وزارة الصحة أن تحسن إدارة هذا الملف بطريقة حكيمة وتتبع سياسة الترغيب والتحفيز بعيداً عن الإلزام وفرض الخيارات..
الترغيب والتحفيز هو الذي يحقق النتائج الصحيحة المطلوبة.. ولا يتم ذلك الترغيب بمعسول الكلام بل بتحسين أوضاع الأطباء والاختصاصيين بما يحقق الرضا وإلا سيستيقظ أبوقردة ومأمون حميدة في يوم من الأيام ليجدا البلاد خالية من الأطباء.. وليس من حق الحكومة في كل الشرائع والأعراف أن تمارس أية محاولة لاسترقاق الأطباء مهنياً أو استرقاق أصحاب أية مهنة غيرها ..
من حق الأطباء والاختصاصيين أن يهاجروا مثلهم مثل الآخرين ولو أردتم إيقاف هجرة الأطباء وسد العجز في الولايات فالخيار واحد فقط أن تدفعوا لهم رواتب مجزية تحفزهم على البقاء في البلاد والعمل في وزراة الصحة وبالعدم فهم أحرار.
شوكة كرامة
لا تنازل عن حلايب وشلاتين.