رأي ومقالات

عبدالباقي الظافر: كلنا لصوص يا سادة..!!

بيد مرتعشة خلطت مدام فاتن الصبغة في كوب من عصير البرتقال الجاف.. قررت الأسطورة أن تضع نهاية حزينة لقصة من الكفاح.. لن تنهي حياتها بالإقامة في سجن النساء أم درمان.. صعب عليها أن تتحول إلى مجرد رقم في سجلات وزارة الداخلية.. لن تذبل الوردة التي شغلت الناس كثيرا.. تذكرت أنها ستنهي حياتها دون أن تكتب وصيتها.. إن لم تكتب وصيتها بوضوح أقاربها يتقاسمون الثروة الضخمة مع كريمتيها أية وسماح.. جعلت القلم بيمنها والكوب المسموم في يدها اليسرى.. حينما اقترب فمها من كوب العصير رأت صورة الصول فضل الله.. زوجها الأول والذي ظنت أنها نسيته تماماً.
سألت نفسها هل كان ابن عمها فضل الله صائباً حينما رفض أن يمضي معها إلى الدنيا الجديدة.. الماضي بخيره وشره يشخص أمامها.. بخيتة سيد أحمد طالبة جميلة جداً ومتفوقة في دراستها.. مرة واحدة في حياتها جاءت الثانية يوم أن لسعتها عقرب في حظيرة الأغنام الملحقة بالبيت.. أكثر ما كان يميّز بخيتة قدرتها على الرسم.. كانت تغمض عينيها ثم ترسم وجه أساتذتها في مدرسة القرية.. حينما جاء موعد امتحان الشهادة الثانوية أبلغها والدها أن عليها أن تتوقف في هذه المرحلة.. الجامعة تعني السفر إلى الصعيد.. النجاح يعني وظيفة في مكاتب الدولة.. في عرف حاج سيد أحمد الأمين أن وظيفة الأم إدارة منزل الزوجية.
كان عليها أن تختار واحدا من ثلاثة شباب تقدموا لخطبتها.. جمالها الباهر منحها هذا الامتياز.. أغمضت عينيها واختارت العريف فضل الله.. أغلب الظن أنه الوحيد الذي سيأخذها إلى المدينة حيث يعمل في شرطة السجون عطبرة.. منذ أن وطأت أقدامها مساكن (الإشلاق) أحست بقيمتها أنثي جميلة وموهبتها رسامة بارعة.. بائع اللبن يتعمد أن يقف بحماره أمام الباب مباشرة ليحظى بمتعة النظر إلى الجسد الملتهب أنوثة.. صاحب (الكنتين) الصغير كان يجعلها آخر زبونة تغادر متجره ليمطرها بوابل من الكلمات اللطيفة.. حتى مدير السجن فلتت منه كلمة غزل في حق بخيتة حينما رآها تنقش الحناء على كف زوجته.
بدأت رحلة تمرد بخيتة حينما صفر قطار النيل معلنا الوصول إلى الخرطوم في ذاك المساء.. قررت أن تحترف عملية رسم الحناء التي كانت هواياتها المفضلة في مدينة عطبرة العمالية.. باعت حليتها الذهبية ثم استدانت لتفتح صالون “مدام فاتن” في شارع المؤسسة الخرطوم بحري.. منذ الافتتاح انزوى الاسم البلدي وبات اسم مدام فاتن على لسان كل العملاء.. كلما أصابت فاتن نجاحاً ضعف رباطها بزوجها الذي يصرّ على مناداتها ببخيتة.. حينما انجبت ابنتها الأخيرة سماح قررت الخروج من عالم فضل الله.. حدثت المفاصلة بإحسان لم تكن تتوقعه.. فقد يئس الرقيب فضل الله من امرأة لا ترضى بالمقسوم.
ذات نهار توقفت عربة مظللة أمام صالون فاتن وترجلت سيدة توحي ملامحها بمتلازمة السلطة والمال.. ظنّ الجميع أن زوجة الوزير تكبدت مشاق الحركة لتصل بنفسها إلى صالون الزينة.. المفاجأة أن تلك السيدة ذات البسطة في الجسد لم تكن سوى مديرة أعمال حرم الوزير.. (توهطت) مدام فاتن ومساعدتها في المقعد الخلفي لعربة (الكامري) المخصصة للخدمة المنزلية.. قررت فاتن من حينها أن تتزوج وزيرا.. المال إن لم تسنده السلطة يصبح بلا جدوى.. صادقت زوجة الوزير الأول.. صارت تصعد في المجد عتبة عتبة.. عدلت من خطتها بعد أن تسرب إلى مسامعها أن تعديلا وزاريا قادما سيطيح بالحرس القديم في الوزارة.. لؤي مصطفي مرشح محتمل لوزارة مهمة.. فقير ومعدم وزوجته ماتت في حادث حركة في شارع التحدي.. لديه الأحزان ولديها المال والجمال.. بعد نحو عام وصلت هدفها.. بعد ثلاثة أشهر من الزواج تحقق حلم الوزارة.
أول قرار اتخذته مدام فاتن إغلاق صالون التجميل ونزع لافتته المضيئة.. رفضت أن تبيعه حتى لا تكون مجرد حنانة سابقة في ذاكرة الناس.. اشترت صحيفة (بلدي) وأمست ناشرة وسيدة أعمال.. تحولت غرفة النوم إلى مكتب لإنجاز الصفقات التي لا يمكن أن تمضي بالسيرك الرسمي.. كان الوزير يغمض عينيه وزوجته تتسع ثراء.. لديها أسلوبها في تدجين الصحفيين وتأليف قلوب صانعي القرار.. باتت فاتن علامة تجارية ناجحة حتى بعد أن فارغ زوجها المنصب الوزاري.
كلما همت أن تشرب من الكوب تأتيها صورة الصول فضل الله.. ترددت وفكرت في البحث عن وسيلة انتحار أخرى.. فتحت نافذة الغرفة بعد أن كتبت وصيتها الأخيرة.. رأت رجال شرطة مكافحة الفساد يطوقون المنزل ومن خلفهم ذات الوجوه المألوفة.. المسؤول الكبير في وزارة العدل الذي ساعدها في تمرير تلك الصفقة.. الصحفي المشهور الذي كان يكتب مقالات باسمها.. حتى زاهر رجل الأعمال وشريكها السابق كان من ضمن المتفرجين.. هنا عدلت من خطتها وأغلقت النافذة وقررت مواجهة الجميع تحت شعار كلنا لصوص يا سادة.

عبدالباقي الظافر- التيار